[تضعيف الشارح للقول باستخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادها]
قال رحمه الله تعالى: [وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرَّج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) ولكن قد روي من طريق أخرى: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيُرَد إلى النار) وليس فيه (في ظهر آدم) وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
والثاني: أن الآية دلت على ذلك.
والآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه قال: (مِنْ بَنِي آدَمَ) ، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ) ، ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قال: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار -كما تأتي الإشارة إلى ذلك- لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] .
السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:١٧٣] ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: ألا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:١٧٣] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم للرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥] ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:١٠] .
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:١٧٤] ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه لا يتبدل ولا يتغير، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.
والله أعلم.
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات، ورجح القول الثاني وتكلم عليه ومال إليه] .
ويمكن أن يجمع بينهما بأن الآية في ميثاق والأحاديث في ميثاق، فالآية يظهر أن المراد بها الميثاق الذي يأخذه على كل مولود يولد على الفطرة، وذلك الميثاق هو المعرفة التي فطر عليها، والأحاديث في خلق الأرواح أن الأرواح خلقت أولاً ثم أعيدت في صلب آدم وتكلمت، وأنها شهدت وإن لم تكن الأجساد موجودة.
وبكل حال فإن هذه الآية تؤيد أن الميثاق الذي فيها غير الميثاق الذي في الأحاديث من هذه الوجوه العشرة التي ذكرها، فإن الله تعالى قال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) لم يقل: من آدم، والأحاديث فيها أنهم أخرجوا من ظهر آدم، فدل على الفرق بين ما في الآية وما في الأحاديث.
والآية فيها قوله: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) والأحاديث فيها أنهم كلهم ذرية آدم.
والآية فيها أنه (أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) وهذا الإشهاد قد لا يتذكرونه لأنه هو الفطرة، فلو كان هو الإشهاد عند خلق الأرواح لم يكن حجة عليهم، فدل على أن المراد أنهم فطروا على الإسلام، وأنه لا مانع من أن الله سبحانه أخرج أرواحهم وأنفاسهم من صلب آدم، وعرضهم عليه، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً، وأن منهم نبي الله داود وأنه وهبه من عمره أربعين إلى آخر ما تقدم.
لا مانع من أن نؤمن بأن الله استخرج الأرواح قبل أن يخلق الأجساد، وأنه أخذ الميثاق على الأجساد، وأن الميثاق الذي أخذه على الأجساد في الآية هو المعرفة والفطرة التي فطروا عليها، فبذلك لا يحصل اختلاف بين الآية والحديث، فيعتقد المسلم أن الله فطر الناس على المعرفة وعلى الديانة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠] ، وأن تلك الفطرة تتغير بتغير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ويعتقد مع ذلك بناء على الأحاديث أن الله استخرج ذرية آدم وعلم أهل الجنة وعلم أهل النار وقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي، وذلك يبين سابق القدر لله تعالى، وسابق علمه بالأشياء قبل وجودها، والله تعالى بكل شيء عليم.