للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل التوبة وشروطها]

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وإن لم يكونوا تائبين) ؛ لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب، وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين) ، لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم، وقوله مردود باطل كما تقدم، فإن إبليس عارف بربه {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:٣٦] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص:٨٢-٨٣] ، وكذلك فرعون وأكثر الكافرين قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥] ، {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:٨٤-٨٥] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم] لا خلاف أن التوبة تمحو الذنب ولو كان من الكبائر، ولو كان من الشرك، فالكلام ليس في التائب، أما أهل التوبة فلا وعيد عليهم، بل الله تعالى يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم، ويدخلهم دار كرامته، ويكفر عنهم بسبب توبتهم ما وقعوا فيه من كفر ومن كبائر ومن صغائر ومن ترك أوامر، يمحو ذلك كله بسبب التوبة، وهذه التوبة لابد أن تكون نصوحاً، وهي التي أمر الله بها، {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:٨] ؛ وذلك لأن هناك من يتوب توبة لا تزجره عن المعاصي، وتسمى توبة الكاذبين، فلا تكون مفيدة له، ولا ماحية لما وقع منه، ولا لما فعله من الخطايا، ولا لما تركه من الطاعات، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً.

وتعرفون أن للتوبة شروطاً لابد منها، وذكر العلماء منها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إلى الذنب.

أما الذي يتوب بلسانه ويقول: أنا تائب، أو تبت إلى الله، ومع ذلك هو مصر على الذنب، حتى ولو كان صغيراً، ومتهاوناً به، فهذا لا توبة له؛ لأنه يتوب بلسانه، ويعمل الذنب بلسانه أيضاً، يقول بلسانه: تبت إلى الله، ثم يستعمل لسانه في الشتم أو في اللعن أو في القذف، أو نحو ذلك، أو يستعمل بصره في المحرم، بأن ينظر إلى الحرام، أو يقول بلسانه ويأكل الحرام، وهو مستمر على ذلك، فلا توبة له، وكذلك الذي يتمدح بمعاصيه، مع أنه قد تركها، فيتمدح بأنه قد زنى بكذا وكذا، ويتمدح بأنه قد قتل فلاناً وفلاناً، ويرى ذلك منحة، ويتمدح بأنه قد خدع فلاناً، وأخذ ماله، أو سرق كذا وكذا، ويتمدح بأنه قد شرب كذا وكذا خمراً وما أشبه ذلك، فكل ذلك لا تقبل معه التوبة.

وهكذا الذي يتوب توبة مؤقتة! بأن يعزم على أنه بعد حين سيعاود الذنب إذا قدر عليه، ومن أمثال هؤلاء: الذين يسافرون لأجل الزنا إلى كثير من البلاد الإباحية، فإذا جاءوا قالوا: تبنا، ولكنهم عازمون على أن يرجعوا إلى تلك البلاد مرة أخرى؛ ليعودوا إلى ما فعلوه.

وهكذا من ترك الذنب في وقت من الأوقات، كالذين يتركون الخمر في رمضان أو الدخان أو نحو ذلك، ثم يعزمون على العودة إليه بعد إفطارهم، لا شك أن هؤلاء لا تقبل توبتهم.

والحاصل أن التوبة النصوح تمحو السيئات وتمحو الكبائر، وتمحو الشرك، وأكبر الشرك التثليث الذي ذكره الله عن النصارى، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٧٣-٧٤] ، فدعاهم إلى التوبة مع كونهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة.

وكذلك دعا الذين يشركون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨-٧٠] فاستثنى من هؤلاء التائب فإنه تقبل توبته، وقد ذكر الله أنه يبدل سيئاته حسنات.

والمراد أن التوبة الصادقة تكون سبباً لمحو الذنوب كلها كبائرها وصغائرها، أما ما يتعلق بأهل الكبائر الذين لم يتوبوا، فقد عرفنا أنهم تحت مشيئة الله، إذا شاء الله عاقبهم وعذبهم بقدر ذنوبهم، وإذا شاء غفر لهم ومحا عنهم ما وقعوا فيه من السيئات، ومعلوم أنا لا نأمن أن ينتقم الله منهم في الدنيا، وأن يغضب عليهم في الآخرة، فيعذبهم على هذه الذنوب التي اقترفوها، ومعلوم أيضاً أن عذاب الله شديد، وأن العذاب في النار لا يقدر عليه أحد، قال الله في عذاب النار: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:١٦] ومن يطيق الصبر على ذلك العذاب الشديد؟! فإذا عرف المؤمن أنه باقتراف هذه السيئات متوعد بهذا الوعيد الشديد؛ زجره ذلك وحمله على أن يتوب إلى الله تعالى، ويقلع عن السيئات.