[دين الله تعالى أصله وثمرته]
نحمد الله على كل حال، ونعوذ به من حال أهل النار، ونحمد الله أن جعلنا مسلمين وأعاذنا من شر البدع والمبتدعين، ونحمد الله أن اختار لنا دين الإسلام ورضيه لنا ديناً، وأتم علينا نعمته وأكمل لنا الدين، ونحمد الله أن ثبتنا على دينه، نسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات.
دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة هو دينه الباقي، وهو دين الأنبياء كلهم أولهم وآخرهم، وأصله معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، أصله الاعتراف بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، أصله التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فبعد أن يعترف العبد بأنه سبحانه رب الأرباب ومسبب الأسباب لا إله غيره ولا رب سواه يعقد على ذلك قلبه عقداً محكماً، فيحمله هذا الاعتقاد على أن يبادر إلى الطاعة وأن يبتعد عن المعصية، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يتفانى في خدمة ربه وفي عبادته، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يرخص عنده كل شيء في سبيل رضا ربه سبحانه وتعالى.
ويحمله هذا الاعتقاد على أن يهجر في ذات الله كل قريب وكل بعيد، وعلى أن يرضي الله بسخط الناس كائناً من كان، وعلى أن يلتمس رضا الله بجميع ما ينفق وبجميع ما يملك ولو طلب منه ربه أن يبذل نفسه وأن يبذل ماله لكان ذلك سهلاً رخيصاً عنده؛ ذلك لأنه يعلم أن رضا ربه فيه الفوز وفيه السعادة، وفيه تحصيل خيري الدنيا والآخرة.
ولكن ذلك كله يتوقف على عقيدة القلب العقيدة السليمة الصحيحة التي هي معرفة الله تعالى بكامل صفاته، معرفته بما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى التي يستحق بها أن يعظم حق التعظيم، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ويستحق أن يعبد حق عبادته ويطاع حق طاعته، وتلك العقيدة إذا رسخت في القلب وتمكنت منه فلن تزعزعها شبهة، ولن يزيلها مزيل مهما كانت العوائق ومهما كانت الظروف.
ولاشك أن هذه العقيدة لما رسخت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم رأينا لها الآثار، ونزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:١١١] .
إلى آخر الآيات.
ونتذكر أن كل من اعتقد هذه العقيدة وثبتت في قلبه ثبوتاً ورسخت رسوخ الجبال أنه يعرف بذلك بعمله، ويعرف بتفانيه بحيث لا تأخذه في الله لومة لائمة، ولو دعي إلى أن يخرج من ماله ونفسه لما توقف في ذلك، فهذه علامة الصدق وعلامة الصادق في هذه العقيدة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:٦٦] يقول: أنا من ذلك القليل، لو كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا لفعلنا، أو أن نخرج من أموالنا وديارنا لخرجنا.
وهكذا كل مؤمن، ولكن كل مؤمن صادق وكل مؤمن مصدق وكل مؤمن سليم الإيمان كامل الإيمان يؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى، ويؤمن بأن ربه هو الذي أعطاه، وهو الذي يملكه، وهو الذي طلب منه سبحانه وتعالى هذا الطلب، فيهون عليه ذلك الطلب.
إذاً فمعرفة العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة المسلمين مهمة غاية الأهمية، وأصل هذه العقدية -كما قلنا- هو معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب في أن الرب سبحانه تعرف إلى عباده، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:٣٧] ، وأكبر مخلوقاته السماوات والأرض، بل ومن مخلوقاته خلقك بنفسك، خلق جنس الإنسان، وخلق الأرض وما بث فيها من دابة، ولا شك أن هذه من أكبر الآيات الدالة على أنه خالق وعلى كل شيء قدير، وإذا كان هو الخالق لهذا الخلق فإنه كما قال ابن كثير المستحق للعبادة.
فيعرفه العباد ويصفونه بصفات الكمال، فيصفونه بأنه هو السميع الذي لا يحجب سمعه شيء، ولا تشتبه عليه الأصوات، وبأنه البصير الذي لا يستر بصره حجاب، وبأنه يرى عباده مهما كان ويرى كل شيء ولا تخفى عليه من عباده خافية، وبأنه العليم الذي يعلم كل ما دق وجل، وكل ما قدم وحدث، وكل كبيرة وصغيرة وبأنه الرحيم بعباده، وبأنه عزيز ذو انتقام، وبأنه صادق الوعد، وبأنه مالك الملك، وبأنه كامل الصفات له الصفات الكاملة التي أثنى بها على نفسه سبحانه ووصفه بها رسوله، فيصفونه بذلك.
فيتعلمون هذه الصفات وأدلتها، وإذا عرفوا أدلتها لا شك أنها يكون لها تأثير في قلوبهم، وتأثيرها في قلوبهم بعد رسوخها بأن تنطق ألسنتهم بذكره، وتخشع قلوبهم لهيبته، وتشتغل أبدانهم كلها بطاعته سبحانه، ويعرفون ما يحبه فيتقربون إليه بكل محبوب، ويعرفون ما يكرهه ويبغضه فيبتعدون عنه غاية البعد، ويعرفون أسباب رضاه فيأتون بها، فذلك هو السبب في التركيز على علم العقيدة.
إذاً فاهتم -أيها الأخ المسلم- بعلم العقيدة حتى ترسخها في قلبك وفي قلب كل مسلم، وتعرف بذلك صادق العقيدة من غيره الذي يعبد الله على شفا جرف.