للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من تقدير الشر بخذلان المنافقين عن الخروج للجهاد]

قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:٤٦] .

فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:٤٧] أي: فساداً وشرّاً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:٤٧] أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٧] أي: قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه.

فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه] .

يكثر إيرادات هؤلاء المجبرة، وهم الذين يعذرون العبد على فعل المعاصي ويزعمون أن له عذراً في ذلك، حيث لم يكن له اختيار ولا قدرة على أية مزاولة، فيكثرون من إيراد مثل هذه الشبهات، فيقولون مثلاً: كيف يريد الله هذه المعاصي وهو يكرهها؟ فيقال: الله تعالى أرادها كوناً وكرهها شرعاً، ويقولون: كيف لا يسوي بين عباده ما دام أنه قد خلقهم كلهم لعبادته، فكيف لا يسوي بينهم فيهديهم جميعاً ويرشدهم؟

و

الجواب

أنه سبحانه خلقهم ومكنهم، ولكنه علم أن فيهم نفوساً شريرة تختار الشر فخذلها، ونفوساً خيرة تختار الخير فوثقها، فله الحكمة في توفيق هذا وفي خذلان هذا، وإن كان الجميع كلهم عبيده وتحت تصرفه، وهم الذين كلفوا جميعاً بعبادته وبالإنابة إليه.

وضرب المؤلف مثلاً لما حكى الله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٦-٤٧] ، هؤلاء ممن كانوا أسلموا ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، لا شك أن الله تعالى خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم وشهواتهم، ولم يوفقهم لما وفق إليه صفوته وخيرته من خلقه من المهاجرين والأنصار الذين اصطفاهم والذين مكن لهم في دينهم.

فهؤلاء المنافقون لما كان في غزوة تبوك تخلفوا عن القتال وتخلفوا عن الخروج، وأتوا بأعذار لا فائدة فيها وليست صادقة، بل حلفوا وهم كاذبون، كما في قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٩٦] ، {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٩٥-٩٦] .

فأخبر تعالى بأنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولم يستعدوا له، ولو كانوا يريدون الخروج ويرغبون في الغزو لأعدوا العدة ولهيئوا أنفسهم، فهم قادرون على أن يخرجوا وعندهم استطاعه وتمكن ولكنهم لم يفعلوا، فلما لم يفعلوا دل على أنهم ما أرادوه ولا أعدوا له عدة، مع أن الله تعالى هو الذي خذلهم؛ لأنه علم أن في خروجهم مفسدة كبيرة حيث إنه لا يكون منهم إلا ضرر، فلذلك كره الله خروجهم وانبعاثهم فثبطهم، أي: سكنهم وصرف أنفسهم عن الخروج لمصلحة عظيمة؛ فإنهم لو خرجوا ما زادوا المسلمين إلا خبالاً، أي: ضعفاً وتخذيلاً وتثبيطاً عن القتال وعن العدو، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يعني: أوقعوا فيما بين المسلمين الفتن والتشكيكات ونحو ذلك، فكان هذا من حكمة الله في أن خذلهم ولم يبعث عزائمهم إلى القتال، وبذلك يعرف أنه تعالى حكيم يضع الأشياء في موضعها اللائقة بها.

فعلى المسلم أن يرضى ويسلم بما جاءه من شرع الله تعالى وأمره ودينه، وأن يعترف بأنه ما خلق إلا ما فيه مصلحة، سواء كانت مخلوقات جوهرية أو عرضية، وسواء كانت أشخاصاً أو أعراضاً وأعمالاً، كل ذلك له فيه الحكمة، فهو الحكيم العليم.

وعلى الإنسان أن يلح في سؤاله لربه، وأن يكثر من الدعاء، والله تعالى قد قدر له ما هو مقدر وجعل سبب ذلك هو كثرة الإلحاح في الدعاء، فيكون سبباً من أسباب تيسير اليسرى وتجنيب العسرى، وليس مغيراً لما في قدر الله تعالى.