[دين الإسلام وسط بين الغلو والتقصير]
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (بين الغلو والتقصير) : قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:١٧١] ، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:٧٧] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:٨٧-٨٨] .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن: (ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
وفي غير الصحيحين: (سألوا عن عبادته في السر، فكأنهم تقالوها) .
وذُكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج عن عكرمة أن: (عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:٨٧] يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: إن لأنفسكم عليكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا، فقالوا: اللهم سلَّمنا واتبعنا ما أنزلت) .
وقوله: (وبين التشبيه والتعطيل) : تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه، فلا يقال: سمع كسمعنا، ولا بصر كبصرنا ونحوه، ومن غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به أعرف الناس به: رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى، ونظير هذا القول قوله فيما تقدم: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زَلَّ ولم يصب التنزيه) .
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] .
فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] : ردٌّ على المشبهة.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] : ردٌّ على المعطلة] .
في هذا بيان أن الحق وسط بين الطرفين، وأن أهل السنة وسط بين فرق الأمة، وأن الأمة وسط بين الأمم، والكلام على وسطية أهل السنة ووسطية الأمة طويل ومعروف، ومما ذكر الشارح أنهم لا يغلون ولا يقصرون، بل هم وسط بين ذلك.
فالغلو هو التشديد على النفس، كما حصل من هؤلاء الذين هموا أن يختصوا وحرموا الطيبات، وشددوا على أنفسهم، ولزموا البيوت، واقتصروا على العلقة من الطعام، وعزموا على أن يقوموا جميع الليل، ويصوموا جميع النهار، ويعتزلوا الملذات والشهوات، ويتشبهوا بالرهبانية، فهؤلاء غلوا.
والذين يقصرون هم الذين لا يأتون من الأعمال إلا بعض العمل، فلا يصلون إلا الفريضة مثلاً، وإذا صلوها صلوها خفيفة، ولا يصومون إلا الفرض، وربما يقصرون في الصيام، أو يأتون بما يفطِّر أو يفسد صيامهم، وكذلك في الطهارة يخففونها.
الأولون: يتشددون ويتقعرون في العبادة، والآخرون يخففون الطهارة وربما لم يبالغوا في غسل الأعضاء ولم يسبغوا.
فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، والوسط هو الخير بين الغلو والتقصير.
فالغلو مذموم لهذه الآية: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:٧٧] .
والتقصير أيضاً مذموم؛ لأن فيه نقصاً في العمل، ونقصاً في لزوم ما أمر الله به.
كذلك أيضاً الغلو والتقصير يعم جميع الأحوال والعبادات ونحوها.
فجميع العبادات يمكن أن يُتصور فيها غلو وتقصير، فالمعاملات مثلاً فيها غلو وتقصير، فالذي يحرم البيوع أو يحرم أكثر الأطعمة ولا يتعامل إلا مع فلان وفلان، أو لا يتعاطى، أو لا يمتلك من الأموال إلا شيئاً دون شيء، يقال: هذا غالٍ قد حرم الطيبات، وكذلك لو حرم الصناعات الجديدة، إذا حرم مثلاً الركوب في السيارات، أو في الطائرات، أو حرم الانتفاع بالأجهزة الحديثة كمكبر الصوت والاستنارة بالكهرباء، والانتفاع بالكهرباء في مكيفات، أو في أنوار كهربائية أو نحو ذلك، نقول: هذا قد غلا.
والذي يتوسع في مثل هذه الأشياء يجره إلى الحرام، فيستعمل مثلاً السماع للموسيقى والأجهزة المفسدة كأجهزة الغناء، وأجهزة التصاوير والتمثيلات الخليعة، والصور والأفلام الماجنة ونحوها، ويتوسع في ذلك، نقول: هذا قصر.
فالأول قد غلا وتشدد، والثاني قد توسع وأتى بما يفسد دينه أو يقلل عليه ديانته، وما بينهما وسط لا تشديد وغلو، ولا تقصير وإخلال بالواجبات ونحوها.