للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المجتهد المخطئ في الحكم]

القسم الثالث: الذي اجتهد في طلب إصابة الحق ولكنه لم يصبه، فحكم باجتهاده، فهذا معذور، وهو الذي له أجر على اجتهاده، ويغفر خطؤه.

هذه أقسام من يحكم بغير ما أنزل الله.

عرفنا أن منها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر، ومنها ما هو عذر.

سمعنا قصة قدامة بن مظعون في عهد عمر رضي الله عنه، كان قدامة وبعض المسلمين في الشام، والشام يكثر فيها صناعة الخمر، وكانوا في الشام وفي مصر يجلسون فيها يدعون إلى الله، ويعلمون من دخل في الإسلام، وكانوا يجالسون أولئك، فعند ذلك يرونهم يشربون الخمر، فـ قدامة واثنان معه شربوها، وتأولوا هذه الآية التي في سورة المائدة، لما ذكر الله تحريم الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:٩٠-٩١] ، ثم قال بعد ذلك: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:٩٣] فظنوا أن هذه باق حكمها فقالوا: نشربها ونتقي ونؤمن ونحسن ويغفر لنا، ولا يكون علينا حرج، فهذا تأويل منهم، فهم ظنوا أن شربها لا ينافي الإيمان فشربوها.

ولما وصل الخبر إلى عمر -وكان رجلاً غيوراً- أمر أن يجلدوا حتى ولو كانوا من مشاهير المسلمين، فجلدوا حد الخمر، ولكن سأل الأمير هناك وهو أبو عبيدة فقال: إن وقعوا فيها عن معصية فعليهم الجلد، وإن أصروا واعتقدوا أنها حلال مباحة فعليهم القتل؛ وذلك لأنهم أباحوا ما حرم الله، مع التصريح بتحريمها في الآية، فمن أباح شيئاً حرمه الله حتى ولو لم يتناوله فقد خالف النصوص، فيحكم بردته، ولكنهم تعللوا بأنهم شبه عليهم، وظنوا أن في هذه الآية دليلاً.

وقال عمر رضي الله عنه لـ قدامة: (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات وأحسنت ما شربتها) ، فالإيمان والعمل الصالح والتقوى والإحسان زواجر تزجر عن هذه المنكرات، ثم بين لهم أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا وهم يشربونها قبل التحريم، الذين قتلوا في غزوة أحد أو بدر أو غيرها قبل أن تحرم الخمر نزل فيهم لما قال المسلمون: كيف بفلان مات وهي في بطنه؟ قتل شهيداً وهو يشربها، كيف حالتهم؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:٩٣] يعني: فيما قد طعموا، لم يقل: فيما سوف يطعمون، أو فيما يأكلون أو يشربون، بل قال: ((فيما طعموا)) فدل على أن المراد: في الشيء الذي قد طعموه قبل التحريم.

وحتى أنتم الذين نزل تحريمها وأنتم أحياء وكنتم تشربونها، ما قد طعمتموه قبل التحريم قد عفي عنه، فاستقبلوا وقتاً جديداً، وتوبوا إلى الله وأقلعوا عنها.

فالحاصل أن عمر رضي الله عنه بين أنهم إن اعتقدوا أنها حلال فقد خالفوا النصوص، فهذا يعتبر ردة، وإن قالوا: بل هي حرام، ولكنا شربناها بتأويل، فهذه معصية لا تخرج من الملة، ولكن فيها حد الخمر الذي شرعه الله.

وبهذا يعرف أن من استحل الحرام المعروف من الدين بالضرورة فإنه يكفر، حتى ولو لم يفعله، فمن قال: الزنا حلال إذا كان الزانيان متراضيين، ولا حرج فيه؛ لأنه شيء من الإنسان، وقد بذلت المرأة نفسها، وقد بذل الرجل نفسه، فلا حرج عليهما فيما فعلا ولا إثم! نقول: هذا قد كفر، ولو لم يزنِ هو؛ وذلك لأنه أحل حراماً.

ومن قال مثلاً: الربا الذي ذكره الله في القرن مباح، ولا إثم فيه، كما حكى الله عن المشركين قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥] نقول: يكفر ولولم يأكل الربا، ولو لم يتعامل به، إذا أباحه واستحله، وجعله مثل البيع، وجعله يجوز بالتراضي، ما دام أن المتعاقدين متراضيان؛ ويعتبر بذلك مرتداً، ففرق بين من فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، ولم يستحلها، وبين من فعلها وهو مستحل لها، أو استحلها ولو لم يفعلها؛ فإنه يكفر.