[مجمل الكلام في تعظيم الصوفية لمن يسمونهم البله]
نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله على النعمة بهذا الدين، نحمد الله أن جعلنا من أتباع خير المرسلين، لا شك -أيها الإخوة- أنها منة كبيرة ونعمة عظيمة، أن هداكم الله، وأقبل بقلوبكم، ومنّ عليكم بمعرفته، وبمعرفة دينه، وبمعرفة نبيه، ووفقكم للقبول وللاتباع، فقد رأيتم وقد سمعتم الفئام والأعداد الكبيرة الكثيرة الذين أُتوا علوماً، ولم يُؤتوا فهوماً، أوتوا أذهاناً وقلوباً ولم يؤتوا زكاءً؛ أذكياء ولكنهم ليسوا أزكياء، منّ الله عليهم بالسمع والبصر والفؤاد، ولكن لم تغن عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
وما أكثر المنحرفين الذين رأوا الحق فحادوا عنه إما عن عمد وإما عن خطأ، وما أكثر الضالين المنكرين وهم يعلمون! فإذا وفق الله العبد ومنّ عليه وأقبل بقلبه فتلك نعمة عظيمة عليه أن يعرف قدرها، وعليه أن يشكر ربه عليها، ونحن إذا قرأنا وسمعنا ما يمر علينا في هذه الكتب وفي هذه الأخبار نرى العجب العجاب! هؤلاء من أهل العقول، ومن أهل الأفهام، ومن أهل الذكاء ومع ذلك يتركون الحق جانباً! ويتركون الحق وهم يرونه، ويرتكبون سبل الضلال! ونحن نسمع وتسمعون أخباراً في القريب والبعيد عن فئام من الناس قد كان آباؤهم على جهل؛ ولكن هم قد زال عنهم الجهل، كان آباؤهم على ضلال، ولكن هم أبصروا الهدى وعرفوه، ومع ذلك تشبثوا بسنن الآباء والأجداد وبعاداتهم! وصدق الله القائل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:٦٩-٧٠] .
مر بنا في الدرس الماضي أن في الزمان القديم بل وفي هذه الأزمنة من يعظمون البله، ورووا فيهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله!) ، وهذا الحديث لم يثبت؛ فهو حديث ضعيف، ولو نشروه، ولو اشتهر في مؤلفاتهم، فإنه لا حقيقة له، والأبله هو: ضعيف العقل، وأقل أحواله أن يكون مجنوناً ساقطة عنه التكاليف، فأما كونهم يُرفعون فوق الأبرار وفوق المقربين ويكونون أكثر أهل الجنة فإن هذا من الكذب.
ونحن نعرف أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر من يدخل الجنة هم الضعفاء والفقراء والمساكين الذين ليس لهم أموال تشغلهم، ولا تجارات يحاسبون عليها فيتأخرون، ولكن أهل الأموال يتأخرون في الحساب؛ ولذلك جاء في الحديث: (وأهل الجد محبوسون) يعني: أهل الحقوق محبوسون- يعني: للحساب- فأما أن يكون البله الذين هم ضعفاء العقول أكثر أهل الجنة فليس بصحيح، ثم لما فشا هذا الأمر عند كثير من الجهلة تشبثوا وتعلقوا بهؤلاء ضعفاء العقول، وصاروا يرفعون من شأنهم، ويعتقدون أن قولهم تنزيل من الله، وأن أفعالهم وحي من السماء، وأنهم معصومون، وأن أقوالهم متبعة، وأنهم صفوة الله من خلقه، فصاروا يتبعونهم، ويطيعون إشاراتهم وحكاياتهم، ولو كانت مخالفة للشرع، ولو كانت مخالفة للعقول السليمة! وهذا بلا شك من الانحراف العقدي، ومن المخالفة للكتاب وللسنة؛ وذلك لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بسنته وسيرته، ونقتفي كتاب ربنا وسيرة نبينا، ونتمسك بذلك، ونلقي ما عدا ذلك خلف الظهور مهما كان القائل، ومهما كان المخالف، فكل ما خالف شرع الله تعالى فلا يلتفت إليه، وقد مر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
فطرق المتصوفة، وكذلك الملاحدة، والاتحاديون، وكذلك الطرقية ونحوهم من الصوفية الذين من جملة بدعهم تصفيقهم ورقصهم ونشيدهم ولهوهم ولعبهم وغير ذلك من البدع التي اتخذوها ديناً وما أنزل الله بها من سلطان.
كذلك أيضاً من المعلوم أنهم قد يلابسهم الشيطان، وقد يجري على أيديهم شعوذةً وأشياء تكون غريبة يموهون بها على العوام، ويوهمون من رآهم بأنهم على حق، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا أشياء تخالف عادات الناس، فلا جرم أنه لا يجوز أن يغتر بهم، وقد مر بنا الأثر المنقول عن الليث رحمه الله أنه كان يقول: لو رأيت صاحب هوىً يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة.
فـ الشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث! بل لو رأيت صاحب هوىً يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة.
فهؤلاء المشعوذون ونحوهم لو طاروا في الهواء، ولو مشوا على الماء، ولو أخرجوا الذهب من الخشب، ولو قلبوا الحجر ذهباً فنقول: لا نغتر بهم -بل نعتقد أن ذلك شعوذة وعمل شيطاني- حتى نعرض أمرهم على كتاب ربنا وسنة نبينا، فهما الميزان الذي يرجع إليه، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:٥٩] ، فالرد إلى الله: الرد إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنته بعد موته، فما وافقهما فهو الصواب، وإلا فهو مردود على من جاء به، وأما هؤلاء الذين يسير خلفهم هؤلاء الضعفاء، ويعتقدون أنهم قد ارتقت قلوبهم، وقد تقربت إلى ربها، وقد سقطت عنهم التكاليف، وقد وصلوا إلى حظيرة القرب، وقد أطلعهم الله على اللوح المحفوظ، وقد صار لهم تمكن كما يزعمون أن يأخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة ما توحيه إلى الرسل ونحو ذلك من الخرافات، فمثل هذه لا يلتفت إليها؛ بل مرجعنا هو شرع الله ودينه، وقد ذكرنا أن هذه الأمور فاشية منذُ أزمنة، وأن لهم حكايات ينقلونها، ومع ذلك يستشهدون بها.
ولا شك أن هناك من يسمون بالمجانين وليسوا مجانين، ولكن لما رآهم عوام الناس قد زهدوا في الدنيا واشتغلوا بالأعمال الصالحة سموهم مجانين! ولكنهم في الحقيقة حكماء، وأما بعض المتأخرين الذين نقلت عنهم أقوال شنيعة فإنهم ولو كانوا عقلاء فهم أقل حالة من المجانين، وهم من البله والسفهاء وضعفاء العقول، فالمرجع في ذلك إلى ما يقوله علماء الشريعة، وعلماء الملة الذين هم أعرف بالله وبما جاء عن الله تعالى.