بعض المتصوفة كانوا يجتمعون في أماكنهم ثم يغلب عليهم شيء يسمونه الفناء؛ وذلك إما بسماع يسمعونه من وعاظهم ونحوه، وإما برقص يرقصونه إلى أن يصلوا إلى الفناء، وإما بتفكير يفكرونه في أشياء إلى أن يغلب عليهم هذا الوصف الذي يسمونه الفناء؛ بحيث لا يشعرون بمن حولهم!! فهذا الفناء هل حصل للصحابة؟!
الجواب
لم يحصل، ولم يحصل للتابعين لهم بإحسان، ولم يحصل لأئمة الدين، وإنما وجد في هؤلاء المتصوفة الغلاة الذين يزعمون أن سببه هو هذا التواجد، ويقولون: إن أحدهم يتصل قلبه بربه، وأنه يفنى عن نفسه، ولا يشعر بحالته، ويقولون: يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، يفنى بموجوده عن وجوده، موجوده يعني: نفسه، أي: أنه يفنى بنفسه في ربه، ويفنى من لم يكن هو الإنسان، ويبقى من لم يزل، ويتصل روحه بالملأ الأعلى، هذا معنى الفناء، وهو بدعة من بدع المتصوفة، ومع ذلك فإنهم يعدونه رقياً، ويتمدحون به، ويزعمون أنه درجة رفيعة، وأنه درجة متمكنة لا يصل إليها إلا الخواص! كذلك أيضاً من أحوال المتصوفة، أن أحدهم إذا تليت عليه آيات أو مواعظ أو كلمات أو نحوها يصعق، ويزعم أن ذلك مما لا يطيق الصبر عليه، وهذا الصعق لم يُؤثر عن الصحابة، ولا عن أئمة الدين، بل كانوا كما ذكر الله تعالى عنهم أنهم يزيدهم القرآن خشوعاً، ويخضعون له ويسجدون، قال عز وجل:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:٥٨] ، وقال:{إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}[الإسراء:١٠٧] ، وقال:{تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر:٢٣] أي: تخشع قلوبهم، وتزيدهم الآيات إيماناً، هذه هي أوصاف أولياء الله، وهذا هو النص الحقيقي للمؤمنين، فأما أن يصل إلى أنه يصعق أحدهم أو يغمى عليه، فهذا أقل أحواله أن يكون معذوراً، وأن يكون الذي غلبه هو شدة الخوف، أو على ما يقول الصوفية: شدة التواجد، فلا شك أن هذا ليس أشرف حالاً من حال الصحابة والأئمة المهتدى والمقتدى بهم.
وأما ما ذكر عن أحوال هؤلاء الذين ذكرهم هذا الشاعر، وأن العقول تسجد على أبوابهم إلى آخره، فإن ذلك بلا شك كفرٌ وضلال، فنقول: لا تسجدوا إلا لله، وهذا التواجد الذي يحصل لهم كله خطأ لا أصل له.
فالمسلم يتقيد بأوامر الشرع، ويبتعد عن الأشياء التي لا أصل لها، وأما من يسمون بالملامية الذين ذكرهم، وأنهم الذين يفعلون الأشياء التي يلامون عليها، ويتعمدون ذلك؛ فهؤلاء من المنحرفين؛ واللوم في الأصل هو: أن يفعل الإنسان شيئاً لا يحسن بحيث يلام عليه، وقد ذم الله تعالى ذلك، ففي قوله تعالى في قصة فرعون:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}[الذاريات:٣٨-٤٠] أي: آثم بما يلام عليه، يعني: مستحق للوم الذي سبب أنه عذب به.
ثم هؤلاء يقولون: إنهم يفعلون هذه الأشياء، حتى إنهم يتعمدون أن يلاموا عليها، وليس في ذلك أصل من دين الله، فلا يغتر بمثل هذه الطرق التي لا أصل لها في شريعة الله.