[قصتان لمجوسي وأعرابي مع المعتزلة]
قال المؤلف: [وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم! قال المجوسي: حتى يريد الله فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما!!.
ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟ قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد! وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:١٣] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:٩٩] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:٣٠] ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:٣٩] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] .
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] .
في هذه القصص التي سمعنا ما يبطل قول المعتزلة، ففي القصة الأولى مجوسي وقدري، والمجوس معلوم أنهم يجعلون الكون صادراً عن خالقين: خالق للخير وخالق للشر، وهذا المجوسي باق على مجوسيته، فهذا القدري دعاه إلى الإسلام، فقال المجوسي: لا أسلم حتى يريد الله أن أسلم، فقال ذلك القدري: الله يريد الإسلام منك، ولكن الشيطان هو الذي يريد منك الكفر، فتعجب ذلك المجوسي، وقال: هذا شيطان قوي، وقوة الشيطان غلبت قوة الله! فالله أراد أن أؤمن والشيطان أراد أن أكفر، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله.
فخصم ذلك المعتزلي، ولو أنه قال: إن الله تعالى أراد كل شيء، فأراد منك الإيمان وأحبه منك، ولكن جعل لك قدرة وميلاً واستطاعة تزاول بها العمل، لكان ذلك أقرب أن يتقبل، فهذه لا شك أنها دالة على أن المعتزلة متذبذبين في شبهاتهم وفي حججهم.
أما القصة الثانية فهي قصة صاحب البعير مع المعتزلي، وهذا من أول من أظهر الاعتزال، فأول من أظهر الاعتزال في عهد السلف هو واصل بن عطاء، وتبعه عمرو بن عبيد، فلما دعا الله ذلك المعتزلي بقوله: اللهم إنك لم ترد أن يسرق البعير فاردده، فطن الأعرابي وقال: الله أراد ألا يسرق فسرق، إذاً: لو أراد أن يرده لم يقدر، فلا حاجة لي بدعائك.
الله تعالى هو الذي يريد كل شيء ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكنه يقدر هذه الأشياء كما يشاء.
وبكل حال فالأدلة واضحة الدلالة في أن مشيئة الله تعالى وقدرته عامة، وأنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فإن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠] ، أي: مشيئتكم التي تزاولون بها الأعمال مرتبطة بمشيئة الله.
وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:٣٩] ؛ فإضلاله لهؤلاء عدل منه، ولكنه معلوم أنه مكنهم من الأعمال، فزاولوا الأعمال السيئة من الكفر والذنوب، فعذبوا على تلك المزاولة التي صاروا بها كفاراً مقدمين للكفر ومقدمين للمعاصي، وهدى المؤمنين وأقبل بقلوبهم ومكنهم وأعطاهم قدرة يزاولون بها الطاعات والإيمان، فصاروا بذلك مؤمنين مطيعين، فعذب هؤلاء على معاصيهم وكفرهم وإن كان بقضاء وقدر، وأثيب هؤلاء على إيمانهم وطاعتهم وإن كان بقضاء وبقدر.