حكي أن المهدي العباسي قبض على زنديق وعرف أنه من المنافقين، وعزم على قتله، فقال ذلك الزنديق: هب أني قتلت، كيف تفعل بأربعة آلاف حديث قد كذبتها وبثثتها في الناس؟! فقال المهدي: تعيش لها نقادها، أي: جهابذة المحدثين ونقاد الحديث يزيفونها ويخرجونها من جملة الأحاديث، إذا سمعوا عشرة أحاديث من شخص واحد وفيها حديث موضوع قالوا: امحوا هذا، اضربوا هذا الحديث، هذا ليس بصحيح، فهذه صنعتهم، وهذه حرفتهم، تخصصوا بها وصار معهم ملكة ليست مع غيرهم، وعندهم معرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته، وبما ثبت عنه، وبما يقوله، إذا جاءهم الحديث مخالفاً للأحاديث الصحيحة عرفوا أنه مكذوب، وقالوا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، وإذا جاءهم الحديث ولفظه مستبشع قالوا: هذا مكذوب؛ لأنهم مع كثرة سماعهم لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يدركون اللفظ الركيك المضطرب المتقطع المتضارب، يقولون: ينزه أفصح الخلق عن أن يتكلم بمثل هذا، فيحكمون بأنه مكذوب.
وهكذا أيضاً يدركونه إذا رأوا فيه مبالغة كبيرة، كذكر ثواب كبير على عمل قليل، أو ذكر عقاب كثير على سيئة صغيرة أو نحو ذلك، فيدركون أن هذه المبالغة لا ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغ، وأشباه ذلك.
وبكل حال: قد بينوا الأحاديث الموضوعة، وبينوا من وضعها، والأسباب التي حملت عليها، وجعلوا ذلك صنعتهم.
روي أن رجلاً جاء إلى أبي حاتم الرازي رحمه الله وكان من المتخصصين بالأحاديث، فقال له: كيف تدرك الحديث الموضوع والحديث الصحيح بمجرد ما تسمعه؟ فقال: هذه صنعتنا، ولكن إذا كنت شاكاً في ذلك فاسألني، وأقول لك: اعرض علي مائة حديث أبين لك مثلاً عشرة منها أنها مكذوبة، ثم اذهب واعرضها على أبي زرعة ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها مثلاً على النسائي ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها على الإمام أحمد ويبين لك العشرة نفسها، ففعل ذلك، فعرض عليه مائة حديث، فكان فيها -مثلاً- عشرة فيها علة، فقال: هذا علته كذا، وهذا علته كذا، ثم عرضها على غيره فتوافقوا؛ هؤلاء مثلاً عشرة من نقاد الأحاديث اتفقوا على سماع هذه المائة واتفقوا على الحديث المعلول، وأن علته كذا وعلته كذا، مع أن بعضهم لم يخبر بعضاً، وإنما ذلك صنعتهم، فهذه حرفة أئمة الحديث ومعلوم أن ذلك هو ديدنهم وعملهم.
مثل الشارح بأن كل من اهتم بعلم من العلوم فإنه يبحث عن أهله وأصله، فمثلاً: الذين حرفتهم علم النحو يتتبعون أخبار النحاة والمجتهدين من الصدر الأول مثل: سيبويه أبي بشر المشهور بعلم النحو، الخليل بن أحمد الفراهيدي، والمشتغلون -مثلاً- بعلم الطب يعكفون على كتب الأطباء المتقدمين كـ بقراط وجالينوس، وكانوا أطباء متقدمين قبل الإسلام، ومؤلفاتهم وكتبهم في الطب موجودة يعتمدها الذين جاءوا بعدهم.
وهكذا كل إنسان وصنعته وحرفته، فالبقال ليس مثل العطار، البقال صنعته أن يبيع البقول والمعلبات ونحوها، والعطار يبيع الأطياب وصنعته معرفة الطيب المخلوط، والطيب الخالص، وكذا وكذا، كل أحد وصنعته، فهذه صنعة المحدثين سخرهم الله لتنقية الأحاديث حتى يتميز الحديث الذي ليس فيه طعن من الأحاديث المطعونة.