ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب: أن أولياء الشيطان يجري الشيطان على أيديهم مخارق يموهون بها على الناس، ويوهمونهم أنها كرامة، وهي حيل شيطانية، وسماها رحمه الله بالأحوال الشيطانية، وذكر أمثلة من ذلك، وربما تحفظون من قصص السحرة وأولياء الشيطان الشيء الكثير، فبعضهم تحمله الشياطين وتقطع به مسافات طويلة، ومنها أن الشياطين أو مردة الجن يتمثلون لأوليائهم بصور وبأشكال مختلفة، وأنهم قد يقربون لهم الأشياء البعيدة، ولا شك أن تلك الأحوال الشيطانية إنما هي من وحي الشيطان.
ومن ذلك الأعمال التي تسمعونها عن السحرة، وأنهم يفرقون بين المجتمعين، ويجمعون بين المتعاديين، وأنهم يوقعون الوحشة والبغضاء، وأنهم ربما قلبوا هذا حيواناً، وهذا إنساناً، وما أشبه ذلك؛ فهذه أحوال شيطانية، ولا نقول: إنها كرامات، ولا أنها خوارق عادات، ولكنها من وحي الشيطان أو من عمله، فإن الشيطان يتلبس بتلك الأرواح، فيقلب الروح ويغيّر هيئتها إلى حيوان أو إلى جماد، أو إلى ما أشبه ذلك، فتكون هذه المخارق تجري على أيدي أعداء الله الذين هم عبدة الشياطين.
إذاً: فرق بين الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي أولياء الشيطان، وبين الكرامات وخوارق العادات التي تجري على أيدي أولياء الرحمن، والفرق بينهما: أن هذه خوارق وكرامات يجريها الله على يدي هذا العبد الذي هو من عباد الله الصالحين، والذي ظاهره من أحسن الظواهر: عمله عمل حسن، ودعاؤه مستجاب، وأكله حلال طيب، ورزقه وكسبه من أحسن الكسب وأبعده عن الخبيث، مقيم لعباداته، محافظ على صلواته وزكواته، مبتعد عن المشتبهات وعن المحرمات، متمسك بالشريعة، مؤمن بالله إيماناً قوياً ظاهراً وباطناً، مطبق لشريعة الله، تالٍ لكتابه، متبع للسنة، بخلاف أولياء الشيطان، فإنهم وإن تظاهر بعضهم بالإيمان والإسلام، ولكن باطنهم يعرفه المتبصرون:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:٧٥] ، فالمتبصر يعلم خبث طواياهم، ويعلم خبث أفعالهم.
وإلى الآن نجد في هذه البلاد كثرة السحرة الذين يعملون هذه الشعوذة وهذا السحر، بحيث إنهم يزوِّرون، ويقلبون أمام الأعين الحقائق حتى يخيل إلى من ينظر إليهم أن هذا شيء وهو ليس بشيء، أو ما أشبه ذلك، وهذا فعلهم قديماً، ولكنهم كثروا في هذه البلاد في هذه الأزمنة بسبب توافد الأعداء الكفرة أو نحوهم، فشاع هذا السحر وكثر، وهو في الحقيقة عمل شيطاني، ويشتكي الكثير من الناس مما يجدون في صدورهم من الوحشة من أنفسهم وأهليهم، وكذلك يشتكون من تسلط الجن عليهم، فيضربون الأبواب عليهم، ويحرقون شيئاً من الأمتعة وهم لا يرون من يحرقها، ورفع الأصوات، وضرب الأبواب والنوافذ ونحوها، ولا يدرون من يفعل ذلك، وما هو إلا الجن أو الشياطين الذين سلطهم أولئك السحرة عليهم، وكذلك تلبس الجن بأناس من الصالحين بواسطة ذلك الكاهن أو ذلك الساحر الذي سخر بسطوته عدداً من الجن، بحيث إنه ينفذ هذا لفلان وهذا لفلان، فهؤلاء أولياء الشيطان، وتشاهدون أو تسمعون أن هناك عباداً لله صالحون مصلحون، نياتهم حسنة، وأعمالهم صالحة، حفظة لكتاب الله، عاملون بشريعة الله، رزقهم الله قوة الإيمان وصفاء القلوب، وكان من عملهم أن كشف الله لهم عن هؤلاء السحرة وأعمالهم، فصاروا يعرفون أن هذا الشخص ساحر، وهذا كاهن، وهذا قد عمل كذا وكذا، ويعالجون المسحورين والمصابين بهذه الأمراض الشيطانية ونحوها بالقراءة وما أشبهها.
ذكر شيخ توفي قريباً رحمه الله أن أخاً له أو عماً له كان من حفظة القرآن، ومن العاملين به، ومن المطبقين للشريعة، ومن الذين نبت لحمهم على طعام طيب، ولم يتعاطوا شيئاً من المشتبهات؛ كان إذا قرأ على المريض مرة أو مرتين شفي بإذن الله، وكان إذا أتي بكأس ليقرأ فيه نفث فيه نفثتين أو ثلاث نفثات؛ امتلأ ذلك الكأس ولو لم يكن فيه إلا قليل من الماء! ثم إذا شربه ذلك المريض شفي بإذن الله، وهذا من آثار الإخلاص وقوة الإيمان، وذُكر لنا أمثال هذا كثيرون، وهؤلاء نقول: إنهم من أولياء الله الصالحين، الذين نحسبهم -والله حسيبهم- عملوا بالشريعة، فأجرى الله على أيديهم هذا الشفاء، وهذا الأثر الطيب، وبضدهم الكهنة والسحرة الذين تجري على أيديهم تلك الشعوذة وتلك الأحوال الشيطانية، فهولاء أولياء الشيطان، وأولئك أولياء الرحمن.