قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام بالقدر إذ قال له: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حج موسى -أي: غلب عليه بالحجة-: قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقاه بالرد والتكذيب لراويه كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر؛ فإنه باطل، وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه.
وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة؛ فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب، قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}[غافر:٥٥] ، وقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران:١٢٠] .
وأما قول إبليس:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}[الحجر:٣٩] ، إنما ذم على احتجاجه بالقدر لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له، ألم تسمع قول نوح عليه السلام:{وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[هود:٣٤] ، ولقد أحسن القائل: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وعن وهب بن منبه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه] .
هناك من يحتج بالقدر كالمشركين الأولين وأتباعهم من الجبرية ونحوهم، فالمشركون احتجوا بمثل قولهم:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}[الزخرف:٢٠] ، كأنهم يقولون: الله هو الذي شاء عبادتنا لهم، وكذلك قولهم:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس:٤٧] ، كأنهم يقولون: إذا شاء الله أغناهم، فكيف نغنيهم أو نطعمهم؟ ولا شك أن هذه حجة باطلة، ويجب على المسلم أن يعلم أن الله -وإن كان له المشيئة التامة- قد أعطى الإنسان مشيئة تناسبه فيكون بذلك ممتثلاً لأمر الله، وإن كانت مشيئة الله هي الأصل وهي الغالبة على مشيئة المخلوق، فالثواب والعقاب على المشيئة التي في وسعه وفي مقدرته.
ولكن لا يقال: إن مشيئة الإنسان تغلب مشيئة الله، كما تقول المعتزلة: إذا شاء الإنسان شيئاً وأراد الله غيره غلبت إرادةُ الإنسان إرادة الله، فهذا معناه: أن الله يعصى قسراً، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، وهذا كله باطل وضلال، والإنسان عليه أن يؤمن بمشيئة الله تعالى وإرادته.
كذلك احتجاج آدم بالقدر في قوله:(أتلومني على أمر قد كتبه الله علي) ، إنما لامه موسى على مصيبة حصلت، واحتج آدم عليه السلام بأن هذا مكتوب عليه، والاحتجاج على الأمر المكتوب على الإنسان قبل أن يوجد جائز؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء قبل وجودها وحدد أزلها، فإذا علم الله تعالى آجال الأشياء وحددها، فلا بد من وجودها في الوقت الذي يحدده ويكونه.