[شرح حديث الشفاعة العظمى]
ذكر العلماء أن أكبر أنواع الشفاعات التي اختُص بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة في يوم القيامة لأجل إراحة الناس من طول الموقف، ولأجل فصل القضاء بينهم، وذلك لأن الموقف يوم القيامة قد ذُكر من طوله ومن هوله وما يكون فيه من الغم والكرب ومن العذاب والألم ما الله تعالى به عليم.
فأما طوله فقد ذكر الله أنه {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:٤٧] ، وفي آية أخرى أنه {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] ، ولعل ذلك لاختلاف تقديره عند الناس، أو في ظن الكثير من الناس، ولكنه لا يحس بطوله أهل التوحيد والعقيدة وأهل الأعمال الصالحة، وذلك لأنهم ينعمون في ذلك الموقف.
كذلك من الهول الذي ينالهم في الموقف شدة الحر، كما روي أنها تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى يكون بينها وبينهم قدر ميل، ويُزاد في حرها، وأنهم يلجمهم العرق من شدة الحر، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنم من يلجمه العرق إلجاماً.
كذلك أيضاً شدة الهول الذي يشاهدونه، فمن طول هذا الموقف وما هم فيه من الكرب يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون من يشفع لكم حتى يريحكم الله من هذا الموقف، وحتى تتخلصوا منه إما إلى جنة وإما إلى نار؟ فعند ذلك يطلبون من يشفع لهم، فذُكر في الحديث أنهم يأتون أولاًَ إلى أبيهم آدم وهو أبو البشر، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته -أي: خصك بهذه الخصائص- ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد أصابنا؟! اشفع لنا إلى ربك ليريحنا من طول الموقف.
فيعتذر آدم فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا ذنب أو خطيئة أبيكم؟! يعترف بأنه أخطأ وأنه هو الذي بسببه خرجتم من الجنة وقد كنتم من أهلها، فإنه لما أُسكن فيها وأخطأ تلك الخطيئة التي هي أكله من تلك الشجرة، أُخرج منها إلى دار الشقاء وهي الدنيا.
وفي هذا تحذير من الأعمال السيئة التي تحرم من دخول الجنة، قال بعض السلف: أُخرج آدم من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وترجون أن تدخلوا معه الجنة! ويقول بعضهم: يا ناظراً يرنو بعينَي راقد ومشاهداً للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي دَرَج الجنان بها وفوز العابد أنسيت أن الله أخرج آدَماً منها إلى الدنيا بذنب واحد والحاصل أن أباهم آدم يعترف بخطيئته ويعتذر عن الشفاعة، ويقول: كيف أشفع وأنا مذنب؟ ثم يحيلهم إلى نبي الله نوح عليه السلام، فيأتون إليه ويقولون: يا نوح! أنت أول الرسل بُعث إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك.
ونوح عليه السلام له ميزة وفضيلة، ولكن لم يقبل أن يشفع لهم تواضعاً، وتعلل واعتذر بأنه قد دعا على قومه بقوله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً} [نوح:٢٦] ، فاعتذر بذلك، وإن كان ما دعا إلَّا على الكفار الذين يستحقون الغرق، فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض إلَّا أهل السفينة.
وبعد نوح يأتون إلى إبراهيم فيعتذر، ويأتون بعد إبراهيم إلى موسى، فيعتذر أيضاً، ثم إلى عيسى فيعتذر.
ثم يأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، فعند ذلك يقول: (أنا لها) ، فإذا التزم أن يشفع سجد لربه، ثم إذا أذن له ربه تكلم بما يفتح الله عليه من المحامد ومن الثناء ما لا يحسنه الآن، يعني أن الله يلهمه من تمجيد ربه وتحميده والثناء عليه ما الله به عليم، فبعد ذلك يرغب إلى ربه أن يفصل بين العباد، وأن يريحهم من ذلك الموقف.