قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد) : اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية: فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله.
وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا.
وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه.
فالجبرية غلوا في إثبات القدر فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات، فشبهوا، والقدرية -نفاة القدر- جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى؛ ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس، من حيث إن المجوس أثبتت خالقَينِ وهم أثبتوا خالقِينَ، وهدى الله المؤمنين أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فكل دليل صحيح يقيمه الجبري فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى؛ فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن، وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم، وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخرين، ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل] .
تكلم الشارح هنا على أفعال العباد، ذكر الطحاوي أن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد، لكن الجبرية لم يثبتوا للعباد فعلاً، وإنما أثبتوا لهم كسباً، يعني: أنهم هم الذين زاولوها، وهم الذين عملوها، وإليهم تنسب، فالعبد يوصف بأنه الذي صلى وأنه الذي صام، ولا يقال: خلق الله فيك الصوم ولا خلق الله فيك الصلاة، ولا خلق الله فيك القتل، أو الشرك أو الزنا أو أكل الحرام، بل يقال: أنت المصلي والصائم وأنت الصادق أو الكاذب، وأنت المؤمن أو الكافر، وأنت البر أو الفاجر، وأنت العامل للصالحات أو العامل للسيئات، أنت المحسن أو أنت المسيء، أنت الذي صبرت أو جزعت، أنت الذي تشجعت أو جبنت، يوصف العبد بهذه الأفعال، ولو كانت خلق الله، فالله تعالى خالق كل شيء، وهو الذي أرادها، وهو الذي أوجدها، ولو شاء لما آمن أحد، ولو شاء لما كفر أحد، ولكنه تعالى أعطى العبد قدرة يزاول بها هذه الأعمال فيصبح من أهل الأعمال وتنسب إليه، هذا هو الذي تكلم عليه الطحاوي، والأشاعرة لا يثبتون للعبد فعلاً، وقولهم قريب من قول الجبرية إلا أنهم يثبتون للعبد كسباً، ثم يضعفون ذلك الكسب، ولا يجعلون له تأثيراً، فأصبح الكسب الذي أثبتوه ليس له حقيقة، وفي هذا يقول بعضهم: مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنو من الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام يعني: أن هذه الثلاثة لا حقيقة لها أصلاً، الكسب عند الأشعري لا حقيقة له، وقد يثبت الكسب ومع ذلك ينفي قدرة العبد، والحال عند البهشمي معناه: أنه لا يثبت للحال حقيقة، وطفرة النظام الذي هو أحد المعتزلة، فإنه اعتقدها وذهب إليها ولا حقيقة لها.