[إنكار طوائف أهل البدع لأسماء الله وصفاته]
معلوم أن أشد البدع وأكثرها فشواً وانتشاراً بدعة التعطيل التي هي تعطيل الله عن صفات الكمال؛ وذلك لأن الذين روجوها وأدخلوها كأنهم اكتسبوا الناس بالعقول، وأقنعوا من اتصلوا به أو من دعوه إلى أن أدلتهم العقلية، وأن العقل هو الأصل في النقل، وأنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقل، فلا يمكن أن يصدقوا الرسل فيما يخالف العقل أو فيما لا يقره العقل.
ومعلوم أن المعطلة يقال لهم الجهمية؛ لأن الجهم بن صفوان هو الذي نشر بدعة التعطيل التي أخذها عن الجعد بن درهم، والجعد هو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فقتله، وفي ذلك يقول ابن القيم في النونية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ قسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان فكل صاحب سنة شكره على هذه الضحية، فهكذا أسس البدعة الجعد بن درهم ثم تبعه الجهم بن صفوان الذي قتله سلم بن أحوز، ثم انتشرت هذه البدعة، وصارت عقيدة لطائفة تسموا بالمعتزلة أنكروا صفات الله تعالى، بل أنكروا أسماءه وجعلوها أعلاماً لا تدل على صفات، فقالوا: إن الله عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، رحيم بلا رحمة، وهكذا وأنكروا أيضاً صفات الأفعال وصفات الذات، فأنكروا علو الله تعالى على خلقه، وأنكروا ما أثبته لنفسه من صفات، حيث أثبت لنفسه الوجه في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} [الرحمن:٢٧] ، وأثبت لنفسه اليدين في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة:٦٤] ، وأثبت لنفسه العين في قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:١٤] ، فجاء المعطلة ونفوا ذلك كله.
كذلك نفوا الصفات الفعلية، فنفوا أن الله تعالى يرحم أو يحب أو يغضب أو يرضى، ووافقهم على هذا النفي طائفة متأخرة تسموا بالأشاعرة، انتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري، ولكن الأشعري تبرأ منهم ورجع عن طريقتهم، واعتقد معتقد الإمام أحمد ومن كان على طريقته من أهل السنة، لكن هؤلاء الذين تسموا بالأشاعرة اتخذوا طريقة عن الأشعري كان قد رجع عنها.
ومن عقيدتهم أنهم لا يثبتون إلا سبع صفات، وأنهم ينكرون صفات الأفعال، فصفة الغضب يثبتها أهل السنة ويقولون: إن الله يغضب لا كغضب المخلوق، ويرضى لا كرضا المخلوق، ويحب لا كمحبة المخلوق، ويسخط ويكره، كما أخبر عن نفسه في عدد من الآيات، ويبغض من يشاء كما يحب من يشاء، ويرحم من يشاء.
ولا شك أن هذه صفات كمال، ولو كانوا يتوهمون أنها مستحيلة فنحن نقول: نثبت أن الله تعالى يحب من يشاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِه} [الصف:٤] ، ونثبت أن الله يرضى، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [المائدة:١١٩] ، ونثبت أنه يغضب، كما قال تعالى {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُم} [الفتح:٦] ، ونثبت أن الله يكره، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُم} [التوبة:٤٦] ، وهكذا فهذه كلها تسمى صفات فعلية، ولكن ننزه الله أن تكون هذه الصفات كصفات المخلوقين، بل صفات المخلوق تناسبه وصفات الخالق تناسبه، ولا نفسرها تفسيراً أكثر من إثباتها وأنها حقيقة، فالذين نفوها قالوا: إنها لا يتصف بها إلا المخلوق، وإنه يلزم من إثباتها تشبيه الله بالمخلوق، وإن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وأن المحبة هي ميل النفس إلى المحبوب، وأن الرحمة رقة تكون في الراحم، وأن هذا لا يليق أن يكون في الخالق، وما أشبه ذلك، ولكن عمدتهم أن العقل يستبعدها، أي أنه لا يمكن أن يتصف بها الخالق عقلاً، فقدموا العقل على النقل، واعتمدوه دليلاً.
فيقال لهم: ما دمتم قد اعترفتم بأن الرسل صادقون، وبأن عقولكم دلت على صدق الرسل، فعليكم أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، وألا تردوا شيئاً دون شيء؛ لأنكم إذا رددتم بعضاً دون بعض فقد صدقتم بشيء وكذبتم بشيء فيصدق فيكم قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:٨٥] ، ويتحقق فيكم الوعيد الذي توعد الله به اليهود.
وبذلك نعرف أننا إذا آمنا بجميع ما جاء في كتاب الله وفي شريعة رسوله فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالبعث والنشور، وفيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وفيما يتعلق بسائر الأحكام، آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وآمنا بالكتاب كله، ووكلنا ما لا نعرف تأويله إلى عالمه وتوقفنا عن التأويلات التي يتأولها أولئك المحرفون للكلم عن مواضعه، فصرنا بذلك مؤمنين بكتاب الله، متبعين لرسول الله، مصدقين لما جاء به، وهذا هو الإيمان الذي أمر الله به وأمر به رسوله، وهذا هو معتقد أهل السنة.
فإن شاء الله أن أهل السنة الذين يعتقدون هذا سيحشرون مع سلف الأمة وأئمتها.