للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بدعة التفويض في الصفات]

من أهل الأهواء من يسمون المفوضة، إذا سمعوا النصوص قالوا: لا نعرف معناها، ولكن نرد ظاهرها ولا نفسرها، فيردون مدلولها ويقولون: لا نثبت لله السمع، ولا نثبت لله النزول، ولا نثبت لله الاستواء، ولا نثبت له العلو، ولا نثبت له القدرة؛ لأن العقل ينكر ذلك، يقولون: ولا نفسر قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:١٢٠] ، ولا نفسر قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، ولا نفسر قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٩] ، ولا نفسر قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:٢٥٥] ، بل نفوض ذلك ونسكت عن معناه! هؤلاء يعتمدون على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ، فكلما جاءتهم آيات وأحاديث فيها إثبات صفات قالوا: إذا أثبتنا السمع فإن المخلوق يسمع، فنكون قد شبهنا، والله ليس كمثله شيء، وإذا أثبتنا العلم فالإنسان له علم، فنكون قد شبهنا، فـ (ليس كمثله شيء) ، وهكذا كل صفة يردونها اعتماداً على هذه الآية.

ولكن كثيراً منهم يسكتون عن التأويل ويفوضون، فهؤلاء المفوضة النفاة الذين جمعوا بين الأمرين، وادعوا أن أحداً لا يعرف مدلولها ولا المراد بها.

قد ذكرنا أن الصحابة فهموا معانيها وأنهم فسروها، وذكرنا أنها كلام عربي بلسان فصيح، يعرفه من سمعه ومن خوطب به.

وذكرنا أن الله تعالى لا يخاطب الأمة بكلام أعجمي، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:٤٤] أينزل على العرب كتاب أعجمي؟ إذاً: فهو عربي، والعرب يفهمون معانيه، فكيف يكون فيه معان لا يدرى ما مدلولها؟ وإنما يطلب منهم تفويض أمرها إلى الله، لا شك أن هذا بعيد عن الصواب.

كذلك القسم الذين جعلوا عمدتهم ما أثبته لهم رؤساؤهم ومشايخهم وعلماؤهم فجعلوه عمدة.

نقول: لا شك أن أولئك المشايخ الذين اعتمدتموهم ليسوا بمعصومين، ثم نقول: على أي شيء اعتمد مشايخكم وعلماؤكم الذين قلدتموهم؟ اعتمدوا على أدلة عقلية، وجعلوا النصوص ظواهر لفظية، إذا جاءتهم الآيات قالوا: آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ظواهر لفظية لا تفيد معنى، ولا يعتمد على ظاهرها، وإنما المطلوب منا أن نتلوها للتبرك، ونقرؤها لمجرد البركة، أما أن نعتقد معناها فلا، هذا يقولونه في الأمور الغيبية، وفي الأمور الأخروية ولكن في باب الأحكام، يقولون: إنها تفيد العلم، وإنه يعمل بها.

فيقال لهم: قد فرقتم بين متماثلين، تعملون بآيات الصلاة والصيام، ولا تعملون بآيات الأسماء والصفات، ولا تعملون مثلاً بآيات الآخرة وما أخبر الله فيها، بل تردون مثل قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣] وقوله: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] وأشباه ذلك، فتقبلون بعضاً وتردون بعضاً، فقد شابهتم اليهود الذين قال الله عنهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:٨٥] يعني: أن يخزيهم في الدنيا، وأن يفضحهم في الآخرة.