للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اتفاق أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق واختلاف المتأخرين]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم.

وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق، ومرادهم أنه غير مختلق مفترىً مكذوب، بل هو حق وصدق.

ولا ريب أن هذا المعنى منتفٍ باتفاق المسلمين، والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته، وأهل السنة إنما سألوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه، ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.

ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرق بها بينهم {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:١٧٦]] .

قد تقدم عند سياق اختلاف الأمة في كلام الله أن هناك فرقة قالوا: كلام الله معنىً واحد قائم بذاته، وهذا قول الأشعرية والماتريدية، ولهذا قالوا: إنه معنىً واحد يعبر به بالعبرية فيصير توراة، وبالسريانية فيصير إنجيلاً، وبالعربية فيصير قرآناً، وهو معنىً واحد.

وهذا قول باطل، ويقولون أيضاً: إن كلام الله تعالى هو المعنى لا اللفظ، ولهم أدلة ربما يأتي نقاش حولها.

وهناك قول ثانٍ للمبتدعة أيضاً أن كلام الله حروف وأصوات تكلم بها بعد أن لم يكن متكلماً.

وهذا أيضاً خطأ؛ فإن الله تعالى لم يزل موصوفاً بأنه متكلم ويتكلم إذا شاء.

وقول أهل السنة: إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وإنه لم يزل متكلماً ويتكلم إذا شاء، وإن القرآن من كلامه، وإن الكلام صفة مدح ليس هو مخلوق، فليس كلام الله مخلوقاً كما أن صفاته ليست مخلوقة، فليس شيء من صفاته مخلوقاً، فعلمه وقدرته وإرادته وحلمه ورحمته وصفاته الذاتية سمعه وبصره كل ذلك منسوب إليه ومضاف إليه، وليس شيء من ذلك مخلوقاً.

وهنا ذكر الشارح عن بعض المعتزلة أنهم قد يوافقون ويقولون: نحن نقول: القرآن غير مخلوق، ولا يقولون: القرآن كلام الله، بل يقولون: غير مخلوق، ولكن هذه العبارة يعبرون بها عن معنىً صحيح يوافق عليه كل أحد، وهو أنهم يعنون أنه غير مفترى ولا مختلق ولا مكذوب، أي: أن محمداً لم يكن اختلقه ولا افتراه، وهذا يتسترون به، وإلا فهم يعتقدون أنه كسائر المخلوقات خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات.

فإذا عرفنا مثل هذه الأقوال بقي أن يعتقد كل مسلم بأن القرآن الذي أنزله الله تعالى هو كلامه، وأنه صفة كمال، وأنه معجز بذاته، وأنه ليس بمخلوق ولا شيء من صفات الله مخلوقة، ويعتقد أن أهل السنة مجمعون من عهد السلف والصحابة على أن القرآن كلام الله تكلم به، وأنه من جملة كلامه، وأنزله وحياً، وجعله معجزة لهذا النبي خالدة باقية ما شاء الله أن تبقى، ما دام يعمل به، وهو منزل غير مخلوق، منه بدأ قولاً وإليه يعود، أي: يرفع في آخر الزمان عندما يترك العمل به، هذا قول أهل السنة، ولا عبرة بالأقوال الشاذة المبتدعة التي خالفت هذا القول.