للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقديم الصحابة لأبي بكر دليل على أحقيته بالخلافة]

قال الشارح رحمه الله: [وفي الجملة: فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحق بها، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وعد رجالاً) .

وفيهما أيضاً عن أبي الدرداء قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر! ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم هو؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ (مرتين) ، فما أوذي بعدها) ومعنى غامر: غاضب وخاصم، ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله.

وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -فذكرت الحديث- إلى أن قالت: واجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليه أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيئت في نفسي كلاماً قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس، وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعداً! فقال عمر: قتله الله! والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها] .

معلوم أن التقديم يدل على الفضل، والاختيار يدل على الأهلية، فهم ما قدموا أبا بكر إلا لفضيلته، ولا اختاروه خليفة إلا لأهليته وكفاءته، وكونه كفئاً لهذه الولاية؛ لذلك أجمعوا عليه، وقد نزه الله الأمة أن تجتمع على ضلالة، وقد ذكر العلماء في كتب الأصول الفقهية أن إجماع الأمة حجة قاطعة، والرافضة يعترفون أن الإجماع حجة، ولكنهم هاهنا خالفوا معتقدهم، فنقول لهم: من الذي خالف في بيعة أبي بكر؟ سموا لنا شخصاً لم يرض بهذه البيعة فيما بعد؟ علي رضي الله عنه -الذي هو الإمام عندكم- قد بايعه، وجاهد معه، وصار مستشاراً له، وصار قريناً له في كل حاله وتدبيراته، يرجع كل منهما إلى قول الآخر، ولم ينقل عنه أنه سخط بيعته ولا أنكرها، فهو من جملة من بايع، وأما سعد بن عبادة الأنصاري فقد كان تهيأ لأجل أن يكون أميراً على الأنصار، ولكن لما تمت البيعة لـ أبي بكر رضي الله عنه قام بعد ذلك وبايع، وبقي كسائر المقتدين بـ أبي بكر، فبقي كآحاد الرعية.

مثل هذه الأحاديث دليل على فضيلة أبي بكر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويقدمه، فهذا عمرو بن العاص من أكابر قريش وأهل الفضل فيهم لما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية ذات السلاسل، قبل أن يخرج جاء إليه وقال: أي الناس أحب إليك؟ من الناس كلهم، فأخبره بأنه يحب عائشة؛ وذلك لفضيلتها ولفضيلة أبيها، فسأله عن أحب الرجال إليه، فقال: (أبوها) وهذا بلا شك دليل على تقديمه في المحبة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويقدمه فإن ذلك دليل على فضيلته وأهليته، وبعده ذكر عمر وسمى بعده رجالاً، ولا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم ما حصلت إلا لكونه أهلاً لأن يكون محبوباً كما ذكر في الأحاديث الأخرى.

وفي الحديث الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بماله ونفسه) هكذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أول من أسلم من الرجال، هذا هو القول الصحيح.

يقول أبو الخطاب في عقيدته المشهورة، وهو عالم من علماء الحنابلة، يقال له: محفوظ بن أحمد الكلوذاني له عقيدة في نظم عقيدة أهل السنة يقول فيها: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد فشهد بأنه الموحد قبل كل موحد؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه لم يتلعثم ولم يتوقف، بل بمجرد ما عرض عليه الإسلام بايع ولم ينتظر، ولم يقل: أمهلني، ولا سأنظر في أمري، وكان رجلاً كاملاً من بين الرجال، فلذلك هو أول من أسلم من الرجال، فلما قال الناس: كذبت، قال أبو بكر: صدقت، أنت الصادق؛ فلذلك سمي بالصديق.

وفي حديث السقيفة أنه لما سمع باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة جاء ومعه عمر وأبو عبيدة؛ فخطبهم وقال: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) لما طلبوا أن يكون منهم أمير، فقال: لكم الوزارة ولكم الإشارة، أما الإمارة ففي قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك بقوله: (إن هذا الأمر في قريش) يعني: الولاية، فرضوا بذلك، ولما قال: بايعوا أبا عبيدة أو عمر، يقول عمر: إنه لم يقل كلمة تؤلمني إلا هذه الكلمة، ما كنت أحب أن أكون والياً على قوم فيهم أبو بكر، لما هو فيه من الأهلية، فقد قدموه لصحبته، وقدموه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وقدموه لقربه منه، ولكونه صهره، وقدموه لكونه صاحبه في السفر، وصاحبه في الغار، وغير ذلك من الفضائل، وقدموه أيضاً لفضائله التي نص عليها الله سبحانه في كتابه، كما في قول الله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ، وكذلك أنزل فيه قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:١٧-٢١] ، وغير ذلك من فضائله الكثيرة، ومن أراد أن يتوسع في ذكر فضائله فليرجع إلى ترجمته وإلى ما كتب عنه العلماء، ومن أهمها وأشهرها كتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد، وقد اشتمل على فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم.