[نقض عبد العزيز المكي لأدلة المعتزلة]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر: يا أمير المؤمنين! ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: (اسأل أنت) .
وطمع فيَّ، فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لابد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أنا كلامه في نفسه-، أو: خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها.
وحاد عن الجواب، فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع.
فقال عبد العزيز: إن قال: خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً، وإن قال: خلقه في غيره؛ فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله، وإن قال: خلقه قائماً بنفسه وذاته فهذا محال؛ لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله.
هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة] .
هي رسالة مطبوعة اسمها (الحيدة) كتبها عبد العزيز الكناني، ذكر فيها أنه لما اشتهر عن بشر المريسي أنه يقول: إن القرآن كلام الله حاول أن يجادله، فذكر أنه لما صلى مرة الجمعة قدم ولده أمام الناس، فسأله بصوت رفيع وقال: يا بني! ما تقول في القرآن؟ فقال بصوت رفيع: القرآن كلام الله، فلما سمع قبض عليه؛ لأن ذلك في زمن فتنة قد افتتن بها خلق كثير، وقد انتشر القول بأن القرآن مخلوق، وقد هددوا وتوعدوا من يقول بأن القرآن كلام الله، عند ذلك أحضر بين يدي المأمون وهو أحد خلفاء بني العباس، وكان ممن دخله كلام المعتزلة وزينوا له حتى اعتقد ما يقولونه بأن القرآن مخلوق.
فلما حضر بين يديه أمره بأن يحضر من يناظره، فأحضر بشراً المريسي وهو رأس المعتزلة أو رأس الجهمية في ذلك الزمان، فتناظرا بين يدي المأمون، فكلما أتى بحجة قوية حاد عنها ذلك المعتزلي الجهمي، فسمى رسالته بالحيدة.
وفي هذه المقالة أنه ألزمه بإحدى ثلاث، قال له: إذا قلت بأن القرآن مخلوق فلابد من واحدة من ثلاث: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في ذاته، وإما أن تقول: خلقه في غيره.
وإما أن تقول: إنه خلقه مستقلاً بنفسه.
ولابد من واحدة، فحاد ولم يجب المريسي، ولم يستطع أن يتخلف، فشرحها الكناني رحمه الله وقال: إذا قلت: إن الله خلقه في ذاته، فهذا محال؛ لأنه يكون محلاً للحوادث، والله تعالى منزه عن أن يكون محلاً للحوادث، أي: أنه لم يحدث له صفة كانت مفقودة، بل هو قديم بصفاته كما تقدم في قول المؤلف: (رازق قبل خلق من يرزقه، خالق قبل وجود الخلق) ، فبطل أن يكون خلقه في ذاته.
وإذا قلت: إنه خلقه مستقلاً -أي أنه مخلوق مستقل اسمه القرآن- فيلزم بذلك أن نشاهد ذلك المخلوق، فالمخلوقات لابد أنها تشاهد، وأيضاً لا بد أنه يأتي عليه التغير.
وقد سمعت أيضاً حكاية أن أحد الذين امتحنوا في القرآن لما أحضروه مرة قالوا له: ماذا عندك؟ قال: رأيت رؤيا.
رأيت أني قمت في الليل لأصلي، فلما كبرت قرأت الفاتحة وقرأت سورة: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١] ، وفي الركعة الثانية قرأت الفاتحة وأردت أن أقرأ سورة الإخلاص فلم أستطع ولم أقدر، فرفعت رأسي فإذا القرآن مسجى، فقلت: ما هذا؟ قالوا: القرآن ميت، فأنزلته أنا ومن ومعي وغسلناه وكفناه وصلينا عليه، فقالوا له: القرآن يموت؟! قال: نعم، أنتم تقولون: إن القرآن مخلوق، وكل مخلوق يموت، فخاصمهم بذلك وبين لهم أن هذه وإن كانت رؤيا فإنها رد عليكم، فإذا قلتم: إن القرآن مخلوق منفصل مستقل يرى فلابد أنه يأتي عليه التغير، فيمرض ويشفى، ويكبر ويصغر، ويزيد وينقص، وينطق بنفسه، فهو مخلوق مستقل، فمن الذي لمسه؟ ومن الذي شاهده؟ القرآن إنما هو هذا الكلام الذي نقرؤه، فهو عرض من الأعراض، وإذا نطقنا به فإنا لا نشاهد الكلمات التي نتكلم بها تخرج ويراها من يراها، فهو عرض تكلم الله تعالى به ليس بمخلوق.
وإذا قلتم: إنه كلام خلقه الله في غيره، لزمكم أن كل ما يتكلم به الناس فهو كلام الله خلقه في غيره، يعني: خلقه في ألسنة الناس وخلقه في قلوبهم، فما ينطقون به فهو من كلام الله.
وقد طرد ذلك كثير من الملاحدة الذين يقال لهم: (أهل الاتحاد) ، حتى قال بعضهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فجعلوا كل ما ينطق به الناس كلام الله ولو كان كفراً، ولو كان هجاء، ولو كان شعراً، ولو كان سخرية أو ما أشبه ذلك، جعلوا كل ما تكلم به الناس من كلام الله تعالى، تعالى الله عن قولهم.
فإذاً لما بطلت هذه الثلاثة ما بقي إلا أنه كلام الله ليس بمخلوق.
قال المؤلف رحمه الله: [وعموم (كل) في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألا ترى إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥] ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير.
وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:٢٣] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام؛ إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمّل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة.
والمراد من قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦] أي: كل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو مخلوق فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديماً بصفاته قبل خلقه) ، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذاً: كان قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:٣] فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:٣٠-٣١] .
وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق) ، قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:٩١] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَة} [البقرة:٢٢٤] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:٩١] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:٢٩] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء:٣٩] ، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف:١٩] ونظائره كثيرة، فكذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:٣٠]] .
هذا دليل مما استدلوا به، وذكر نقضه، فالدليل الأول -كما تقدم- استدلوا بعموم (كل) في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦] ، قال بشر المريسي لـ عبد العزيز الكناني: إن قلت: إن كلام الله شيء خاصمناك؛ لأنه داخل في هذه الآية، وإن قلت: إنه ليس بشيء ضللت وكفرت، وذلك لأن المحسوسات كلها داخلة في كل شيء.
ولكن بشراً لما قال ذلك اعتقد أنه قد غلب الكناني، وأنه ظهر عليه بالحجة، فقال له الكناني: ما أمرتك بأن تجيب على الآية، دعني أتولى الجواب، فقال: إن القرآن شيء لا كالأشياء، القرآن شيء ولكن ليس كالأشياء التي في هذه الآية، والجواب الثاني هو ما سمعنا من أن كلمة (كل) قد ترد عامة، ولكن تأتي عامة بحسب ما يراد منها لا أنها يدخل فيها كل الأشياء.
واستدل الشارح بدليلين: أحدهما: قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥] يحكي الله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد أنها تدمر كل شيء، ومع ذلك بقيت أشياء موجودة ما دمرتها، فدل على أن كلمة (كل شيء) يراد بها: كل شيء يقبل التدمير.
والدليل الثاني: قوله تعالى في قصة بلقيس ملكة اليمن: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:٢٣] ، ومعلوم أن هناك أشياء لم تؤت منها كالذي أوتي سليمان، فإنه أوتي ذلك الصرح، وأوتي الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وسخرت له الشياطين كل بناء وغواص، ومع ذلك ما أوتيت مثل ذلك، وهي في زمنه، ومع ذلك ملكها لم يتجاوز الجهة التي هي بها، فإذاً قوله تعالى: (أوتيت من كل شيء) عام، ولكنه مخصوص بما يؤتاه مثلها.