وردت الأدلة التي تثبت عذاب القبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا وضع الرجل في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه) ، إلى آخر الأحاديث التي سمعنا.
فإذا قال قائل: أين العذاب ونحن قد نحفر القبر بعد يومين أو بعد أيام ونجده كما هو لم يتغير؟ ويقول بعضهم: إنا نضع على صدره الزئبق الذي هو خفيف الحركة، ومع ذلك نجده على حاله لم يتغير عن موضعه، فكيف يكون العذاب مع هذا؟ ف
الجواب
أنكم في عالم وهم في عالم، والعالم الذي هم فيه هو عالم الأرواح، ولا شك أن الروح هي التي يكون عليها الحساب، وعليها العذاب، وهي التي تتألم وتتنعم، ونحن لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا، والذي في الدنيا لا يشعر بما يكون بعد الموت؛ فلأجل ذلك يقول في الحديث:(إنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) لو أسمعنا الله ما يكون من أهل القبور لما استقر الناس في الدنيا، ولما تهنوا بمأكل ولا بمشرب، ولما عمرت هذه الدنيا بأهلها؛ لأنهم إذا كانوا يسمعون عذاب هؤلاء وصياحهم وعويلهم، ويعلمون أنهم سيصيرون إلى مثل ذلك، تنكدت عليهم الحياة، وتكدر عليهم صفوها، وتكدرت عليهم معيشتها؛ فلأجل ذلك لما أراد الله عمارة هذه الدنيا حجب عنهم الأمور الأخروية، التي أولها ما بعد الموت، حجبها عنهم فلا يسمعون شيئا ًمما فيها، ولا يعلمون حقيقته، ولكن قد يطلع الله أفرادا ًعلى شيء من ذلك، ومن أراد أمثلة لذلك فيرجع إلى الكتب التي ذكرنا، مثل كتب ابن أبي الدنيا فله رسائل في ذلك، وكتاب أهوال القبور لـ ابن رجب، وكتاب الروح، فقد ذكروا عن أناس أنهم أطلعوا على بعض الأمور الأخروية، ومنها ما هو أحلام ومرائي، ومنها ما هو رأي عين، وفي بعض الحكايات أن بعضهم رؤي في المنام وعلى وجهه سفعة من سواد، فقيل له: ما هذا السواد في وجهك؟ فقال: دفن عندنا بشر المريسي فزفرت جهنم زفرة، فنال جميع أهل القبور منها هذه السفعة من السواد! ومعلوم أن المقبورين قد يكون أحدهما سعيداً والآخر شقياً، ويدفنان في قبر واحد، ويكون هذا قبره روضة من رياض الجنة، وهذا حفرة من حفر النار، وهما ملتصقان، ولا يتألم هذا بعذاب هذا، ولا يتنعم هذا بنعيم هذا، والله قادر على كل شيء؛ لأنه يقدر على إيصال كلٍ ما يستحقه، ولا يستبعد في قدرة الله أمثال هذه الأمور.
وأما الحكايات الدنيوية فذكروا منها أشياء كثيرة، ذكروا أن فلاناً لما دفنوه، وسووا عليه لبنه، سقطت قلنسوة واحد منهم، فخفض رأسه ليأخذها، فرأى القبر قد مد وقد وسع في نظر عينه، ولم يره غيره! وهذه بشرى.
وكذلك يحكى عن كثير من الذين يشهد لهم بالخير أنه يخرج من قبورهم رائحة المسك، وأنه يشم منهم قبل أن يدفنوا روائح طيبة على الأبدان، فكيف بالأرواح؟! ولا شك أن الله سبحانه أخبر على لسان رسله بهذه الأمور، وأظهر منها علامات لتكون شاهداً ودليلاً للأمة على مثل هذه الأمور التي لم يروها.