للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخلاف في حقيقة السحر]

هل للسحر حقيقة أم أنه خيالات؟ أنكرت المعتزلة أن يكون للسحر حقيقة، وأنكر ذلك أيضاً كثير من المتأخرين الذين ينكرون من العلوم غير ما تصل إليه إحساساتهم.

والصحيح أن له حقيقة؛ ولولا ذلك لم يحتج إلى الاستعاذة من السحرة، قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:١-٤] النفاثات: السواحر، وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك) ، ويذكر العلماء أن الساحر أو الساحرة إذا أراد أحدهما عمل سحر فإنه يأخذ خيطاً أو حبلاً، ثم يعقد فيه عقدة، ثم تكون نفسه قد امتزجت بها الصفات الشريرة، وتلبست بها الشياطين، وأصبحت ذات شر وذات أذى، فإذا تمثلت فيها تلك الصفة نفثت نفثاً من ذلك الريق المسموم، فأوقعتها في ذلك الحبل أو الخيط، وعقدت عليها، وتكلمت بكلام سيئ، بأن تقول: يُعقد فلان، أو يُضر فلان أو نحو ذلك، فهذا من عمل السحرة؛ فمن عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ولو كان السحر ليس له حقيقة لما استعيذ من شره؛ لأنه لا يضر، وكذلك قد أخبر الله تعالى بشيء من ضررهم فقال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:١٠٢] ، فهم يفرقون بين المرء وزوجه، وهذا يُسمى بالصرف، وهناك أيضاً ما يُسمى بالعطف، فالسحرة من أعمالهم الصرف وهو: وقوع البغضاء بين المتحابين، والعطف وهو: جلب المودة بين المتقاطعين والمتباغضين، وهذا الذي يُسمى الصرف أو العطف كله عمل شيطاني، وتوصلهم إلى ذلك بأدوية أو بعلاجات لا شك أنها من وحي الشياطين، فهي التي تدلهم على أن النفث في الدواء الفلاني يسبب فرقة، ويسبب بغضاء بين فلان وفلانة، فإذا رأى زوجين بينهما عشرة طيبة حاول أن يفرق بينهما، فعمل ذلك السحر الذي يوقع عداوة من كل منهما للآخر، وهذا مشاهد كثيراً، وقد اشتكى إلينا كثير من الرجال بأنه إذا دخل بيته أو رأى امرأته وجد نفرة، ووجد ضيقاً، ووجد حشرجة، ووجد تكتماً؛ بحيث يكون في غم، وفي ضيق، وكأنه في سجن أشد ما يكون، ولا تستريح نفسه حتى يفارق بيته، أو يصد عن امرأته.

وكذلك أيضاً يقع كثيراً حبس الرجل عن امرأته؛ بحيث إنه لا يستطيع إتيانها، ويفعل ذلك أيضاً السحرة، فيكون الرجل على هيئته وقوته، فإذا قرب من امرأته لوطئها بردت همته، وهو على خلاف ذلك، ولا يدري ما السبب، إلا أنه من عمل هؤلاء السحرة! إذاً: فهذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يؤثر ويضر، وأما ما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنه قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، ثم إنه سأل ربه وسأله، فقال: يا عائشة! أشعرت أن الله شفاني؟ إني قد أتاني ملكان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال: ما بالرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر في بئر ذروان، فذهب إلى تلك البئر فاستخرج السحر منها، وإذا ماؤها مثل نقاعة الحناء، وإذا نخلها كرءوس الشياطين) فشفاه الله تعالى.

يقول العلماء: هذا العمل الذي عمله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر عمل خفي فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين امرأته، بمعنى: أنه حبس عنها، ولأجل ذلك في بعض الروايات تقول: (حتى أنه يخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن) ، وأما في مجال الرسالة وفي مجال تبليغ الرسالة فلم يتغير شيء من عقله؛ وذلك لأن الله تعالى حفظه عن أن يناله السحرة بشيء يضر فيما يتعلق برسالته، فهذا أيضاً دليل على أن السحرة قد يؤثرون في بعض الأمور، فأثر هذا الساحر، ولكن أبطل الله كيده، كما أن اليهود أرادوا أن يقتلوه بسم جعلوه في شاة لهم، ولكن الله حماه عن أن يضره ذلك السم.

وبكل حال فهذه أدلة على أن للسحر حقيقة، وأنه يضر، وأن الساحر قد يتمكن من سحره، ويقلب الإنسان حيواناً، أو الحيوان إنساناً، ولكن كيف يقلب الإنسان دابة، أو وحشاً، أو وعلاً، أو سبعاً أو نحو ذلك؟ نقول: يسلط عليه جنياً، ومعلوم أن الجني يتشكل بأشكال، فتارة يظهر بصورة سبع، وتارة يظهر بصورة إنسان، وتارة يظهر بصورة كلب، وتارة يظهر بصورة هامة، وتارة يظهر بصورة بقرة؛ لأن الله أعطاه من القدرة على التشكل في هذه الأجسام ما أعطاه، فإذا سلط الساحر شيطاناً على ذلك الإنسان، وقال له: اخرج بصورة حمار، أو بصورة كلب، أو بصورة كذا، لابسه ذلك الشيطان، وانقلبت هيئته إلى ما يريده ذلك الساحر، ولا يبطل عمله إلا بعدما يشفى -بإذن الله- بالقراءات والتعوذات التي تبطل عمل السحرة.

وبعد ذلك نقول: هذا يبطل قول من قال: إن السحر شعوذة، كالمعتزلة الذين يقولون: إن السحر ليس له حقيقة، وإنما هو تخيلات، ويستدلون بما حكى الله عن السحرة الذين جادلوا موسى، قال الله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦] فقوله: (يخيل إليه) أي: أنهم جاءوا بعصي فألقوها فإذا هي تتحرك كأنها حيات، وكذلك ألقوا حبالاً فإذا هي تتحرك، ولما أن ألقى موسى عصاه فانقلبت حية قالوا: نحن نلقي عصينا وتنقلب حيات، ونلقي حبالنا وتنقلب حيات، فيقولون: ذلك خيال، ولكن قد يتمكنون من أن يسخروا بعض الشياطين التي تتحرك أمام الناظرين، ولكن بطل كيدهم لما جاء الحق، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:١١٧-١١٩] أي: أن موسى ألقى عصاه فالتقمت عصيهم وحبالهم كلها، وعادت عصاً كما كانت، فعرف السحرة أن هذا ليس عملاً شيطانياً، وأنه أمر رحماني، فعند ذلك أُلقي السحرة ساجدين، فبطل سحرهم، وعرفوا أحقية ما جاء به موسى.