قال رحمه الله:[وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما، ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك إما أن يكون في فطرته محبته -وهو أنفع للعبد أولا-، والثاني فاسد قطعا، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه] .
هذه أدلة على أن معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية يدركها الإنسان بفطرته، وهذا تقرير من تقارير المتكلمين ولكنه واضح، يقول: إن الإنسان لا بد أن يخطر بقلبه خواطر، وهذه الخواطر وهذه الإرادات قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ولا شك أنه متى فسر تلك الخواطر عرف ما يضره وما ينفعه، فمن ذلك أن يفكر في نفسه وفي الوجود الذي حوله، فيعترف حينئذٍ أنه مخلوق، وأن الوجود الذي حوله مخلوق، ويعترف بعد ذلك أن هذا المخلوق لا بد له من خالق متصرف، وأن التصرف للخالق وحده، ثم إذا اعترف بذلك انتفع بهذا الاعتراف، فكل عاقل يقول: إنه إذا خطر في قلبه هذه الخواطر فلا بد أن يفكر في نهايتها، فينظر هل هي حق أو باطل، وإذا كانت حقاً فإنه يؤثرها ولا يترك عليها ما يضادها، فكل عاقل يؤثر ما ينفعه ويترك ما يضره، فلو قيل لك مثلاً: اعترف بالبعث والجزاء في الآخرة ونحن نثيبك ونرفع منزلتك ونعطيك ونمكنك.
أو: أظهر الإنكار ونحن نحبسك ونضربك ونؤدبك ونحرمك فالعقل يقول: لماذا لا أعترف، وأنا أعرف ما في الاعتراف؟ ومما يدعوه إلى الاعتراف: أولاً: أن البعث عليه أدلة.
ثانياً: فيه منفعة.
ثالثاً: التكذيب فيه مضرة.
فكل عاقل يؤثر أن يعترف بالحق حتى يحصل له الانتفاع.
قال رحمه الله:[ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه، وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك] .
وهذا أيضاً دليل عقلي، فمعلوم أن الله تعالى فطر العباد على معرفته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم:٣٠] ، ولكن هذه الفطرة قد لا تكفي لتفاصيل الحقوق، فالإنسان مثلاً لو نشأ في بادية ولم يسمع بالدين ولم يعرف شيئاً عنه فإنه يعرف أنه مخلوق، وأن هذا الكون مدبر مسخر، لكن يخفى عليه أشياء من تفاصيل العبادة، فيقول -مثلاً-: أنا مخلوق ولي خالق، وخالقي له حقوق علي، ولكن ما هي؟ وكيف أؤدي هذه الحقوق؟ وما الذي يحبه حتى أفعله؟ وما الذي يكرهه حتى أتركه؟ وهذا يرجع فيه إلى ما جاءت به الرسل، فالرسل هم الذين بينوا للناس حقوق الله على العباد فأمروهم أن يفعلوها وما حرمه فأمروهم أن يتركوه، فهذا يُتلقى من الرسل، وإلا فالإنسان لو ترك وفطرته دون أن تغير لمال إلى الحق ولآثره، ولكن تفاصيل الحق تؤخذ عن الرسل.