[حديث دخول الناس النار بسبب حصائد ألسنتهم يرد قول الأشاعرة]
قال المؤلف رحمه الله: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى.
ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر، ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك] .
يعني أن لفظة الكلام معروفة لا تحتاج إلى أن يستشهد عليها، ولا أن يقال: إنها تؤخذ من قول الشاعر الأخطل أو نحوه، فإنها لفظة معروفة، ومعلوم أنه إذا قيل: تكلم فلان أنه نطق وقال وحرك لسانه وشفتيه، وظهر له صوت يفهمه من يعرف لغته، وكتب عليه ذلك الكلام إما في سجل حسناته أو في سجل سيئاته، قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:١٨] أي: ما يتكلم من كلمة يتلفظ بها إلا وهناك ملكان يكتبانها: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:١٧] ، ولم يذكر أنه يكتب ما خطر بالقلب، إنما يكتب ما تكلم به اللسان خيراً أو شراً.
وهكذا أيضاً هذا الحديث الذي ذكر، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ:(ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى.
فقال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه، قال معاذ: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) ، فأخبر بأنهم إنما يعاقبون على ما تلفظوا به، لا على ما وسوست به النفس، ولا على ما تكلم به القلب.
فإذاً الكلام والقول إذا قيل: قال، يقول، قل، تكلم، يتكلم، تكلم، كلاماً، متكلم، فالعرب تعرف أن المراد أنه يختص بالنطق الذي هو صياغة الكلام بالحروف العربية، كما أنهم يعرفون أن الرأس هو مجمع الحواس الذي هو أعلى الجسد، وأن اليد اسم للكف والذراع والعضد التي يحصل بها القبض والبطش، والرجل اسم للقدم والساق والركبة والفخذ التي يحصل عليها القيام والمسير ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى أن يقال: ما هي اليد؟ فإذا قيل: ما هي اليد -والذي يسأل عربي- نقول: أما تعرف يدك؟ أما تعرف رأسك؟ أتحتاج كلمة الرأس إلى تفسير؟ فكذلك كلمة (الكلام) و (القول) لا تحتاج إلى تفسير، ولا تحتاج إلى أن يستشهد عليها بقول الأخطل أو بغيره، بل هو معنى يعرفه كل عربي نشأ في بلاد العرب، ويترجم إلى اللغات الأخرى بالكلام الذي يفهمه أهل تلك اللغة.