للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحمة الله بالعباد في عدم تكليف ما لا يطاق]

نحن نعرف أن الله تعالى رحيم بعباده، وأنه ما أمرهم إلا بما يطيقونه، ولو أمرهم بزيادة عليه لأطاقوه، ولكنه تعالى رحمهم، فلم يكلفهم ما فيه مشقة وصعوبة عليهم، فلو فرض في السنة صيام شهرين لقدروا على ذلك، ولكن قد يكون فيه مشقة، ولو فرض عليهم في الطهارة الاغتسال بدل الوضوء لقدروا عليه، ولكن فيه مشقة، ولو فرض عليهم كل يوم عشر صلوات لقدروا على ذلك، ولكن مع صعوبة ومشقة، وكذلك لو فرض عليهم الحج مرتين في العمر أو أكثر لاستطاع كثير منهم ذلك، ولكن مع مشقة، ولو فرض عليهم في الزكاة خمس المال أو نصف الخمس بدلاً من ربع العشر لاستطاعوا ذلك، ولكن يكون عليهم شيء من المشقة، فلأجل ذلك خفف الله عنهم.

ولما فرض عليهم -أولاً- أن يثبت العشرة للمائة في الجهاد، وأن تثبت المائة للألف، ولا يفرون منهم، علم أن في ذلك شيئاً من المشقة؛ فخفف عنهم إلى أن لا يفر الواحد من الاثنين، فقد أنزل أولاً قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:٦٥] الواحد يغلب عشرة، ثم بعد ذلك خفف عنهم: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:٦٦] فالواحد يغلب اثنين بشرط الصبر، (مائة صابرة) ، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٦٦] ، فأخبر بأنهم يقدرون، ولكن خفف عنهم، يعني إذا كانوا صابرين محتسبين غلبوهم بإذن الله، وقد وقع هذا، فأهل بدر غلبوا المشركين مع أن المشركين أضعافهم -أي: مثلهم ثلاث مرات- ولكن هزموهم بإذن الله.

وكذلك حكى الله عن طالوت ومن معه أنهم قالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:٢٤٩] ، فحكى عن الذين يظنون أنهم ملاقو الله قولهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩] .

والحاصل: أنه سبحانه وتعالى كلف العباد، ولكن كلفهم وهم يقدرون على ما كلفهم به، بل على أكثر منه، وإنما أمرهم بما فيه يسر وسهولة دون حرج ومشقة، ولما أمرهم بالطهارة بالماء علم أن فيهم مرضى لا يستطيعون استعمال الماء، وعلم أن فيهم مسافرين لا يستطيعون حمل الماء في الصحراء، فأباح لهم أن يعدلوا إلى التراب ليتطهروا به، ثم قال بعد ذلك: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:٦] يعني: أنه لو كلفكم وأحرجكم لأمركم بحمل الماء في الأسفار، ولكن أراد ألا يحرجكم، وكما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] ، ولما أمر بالصيام علم أن هناك من يشق عليهم كالمرضى والمسافرين، فأباح لهم الفطر والقضاء، فقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٥] ، ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] ، أي: لا يشق عليكم ولا يأمركم بما فيه كلفة وتعب.

فعلم بذلك أن هذه التكاليف التي أمرهم بها هي في وسعهم وفي قدرتهم وطاقتهم هذا بالنسبة إلى الأفعال المأمور بها.

ويقال كذلك بالنسبة إلى الأفعال المنهي عنها: الذنوب والمعاصي المنهي عنها يقدرون على تركها، ولو قال من قال: إنه لا يستطيع تركها، فإنه غير صادق في ذلك، وقد أشرنا إلى ذلك فيما مضى.