للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دين الإسلام وسط بين الجبر والقدر وبين الأمن واليأس]

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وبين الجبر والقدر) : تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها، وليست مخلوقة للعبد، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى.

وقوله: (وبين الأمن والإياس) : تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة] .

لابد أن نعلم أن أهل السنة وسط في هذه الأمور، وذلك لأن القدرية الذين نفوا قدرة الله قالوا: إن الله لا يقدر على كل شيء، بل العبد يعصي قهراً على الله، والله لا يقدر أن يرد هذا العاصي، ولا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهؤلاء غلوا في نفي قدرة الرب، وجعلوا القدرة للعبد.

وأما الجبرية فضدهم، حيث نفوا قدرة العبد أصلاً، وجعلوا العبد مجبوراً ليس له أية قدرة، ولا أية مشيئة، ولا أية عمل، بل حركته كحركة أغصان الشجرة التي تحركها الريح، فلم يجعلوا له اختياراً.

فلا هؤلاء ولا هؤلاء، بل الحق وسط بينهما وهو أن نقول: إن للعبد قدرة، ولكنها تحت قدرة الله خاضعة لمشيئته وقدرته.

كذلك أيضاً أهل السنة وسط بين الأمن واليأس، الأمن: هو عدم الخوف من الله، كون الإنسان يقدم على المعاصي، ويتجرأ عليها، ويتجرثم في الذنوب، وكأنه عنده صك أمان من الله أنه في الجنة، فتراه يُقدم على الذنوب، ويكثر من السيئات، ولا يخاف من الله، هذا هو الآمن، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] .

وأما اليأس: فهو القنوط الذي هو قطع الرجاء، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] ، وهو الذي يقطع رجاءه من الرحمة، وكأنه يجزم بأنه في النار ويقول: لا قدرة لي على التوبة، أنا قد عملت عملاً لا تنالني فيه الرحمة، ثم إذا نصحتَه يقول: عملي وذنوبي كثيرة، وأنا لا أستطيع أن أمحوها، وقد تكاثرت علي، فالآن أنا مقدم أو جازم على أني من أهل النار، ولو عملت ما عملتُ، ذنوبي لا تمحوها التوبة، ولا تصل إليها الرحمة، فيقطع رجاءه من رحمة الله.

نقول: هذا قنوط {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦] بل الوسط هو الخيار، وهو أن تكون خائفاً راجياً، فيكون الخوف والرجاء للإنسان بمنزلة الجناحين للطائر مستويان، لا يكون في أحدهما زيادة على الآخر، إذا كان في أحدهما زيادة اختل طيران الطائر، وإذا تساويا استوى طيرانه، الخوف يحملك على أن تكثر من الأعمال، والرجاء يبرِّد قلبك على ألَّا تيئس من رَوح الله.