للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفصيل الأحوال الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم]

قال رحمه الله تعالى: [وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.

فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله؟ كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟.

ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: (إني قد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) .

فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه.

وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه: إن هذا والذي جاء به موسى -عليه الصلاة السلام- ليخرج من مشكاة واحدة.

وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه، وكان ورقة قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، قالت له خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول.

فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.

وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، فسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان من آبائه من ملك؟ فقالوا: لا.

قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا.

وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم.

وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً.

وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا.

وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم.

وسألهم عن الحرب بينهم وبينه.

فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى.

وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة فقال: سألتكم هل كان من آبائه من ملك؟ فقلتم: لا.

قلت: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.

وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا.

فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا.

فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله تعالى، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم.

وهم أتباع الرسل -يعني: في أول أمرهم-، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون.

وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه.

فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف.

وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول.

وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا.

وكذلك الرسل لا تغدر.

وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم، وأنهم لا يغدرون علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) .

والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩] ، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:١-٢] ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.

قال: وسألتكم عما يأمر به فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.

وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب، وهو حينئذٍ كافر من أشد الناس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر.

وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره] .

أرفق الشارح هذه القصص للاستدلال بها على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء العقلاء الذين معهم معرفة وعلم استدلوا بهذه القرائن على صدقه وعلى صحة رسالته.

وذلك لأن الله تعالى أجرى العادة أن الكاذب يفضح ويظهر كذبه، فإذا أسر سريرة سيئة أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وعرف الناس ما يخفيه وما يضمره من كذب أو من حقد أو من نفاق أو نحو ذلك.

ولهذا كان المنافقون الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى أمرهم بما يظهرونه من الكلمات السيئة التي فيها همز ولمز وعيب، فيعرفهم المؤمنون، فإذا عرفوا أن هذا يميل إلى المنافقين، ويجالسهم، ويتكلم معهم، ويلقاهم بوجه منبسط -ونحو ذلك- عرفوا أنه ليس بصادق الإيمان، ولو أنه يلاطف المؤمنين، ولو أنه يظهر لهم التصديق، كما ذكر الله ذلك عن المنافقين عموماً في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] ، ولكن فضحهم الله تعالى وأظهر سرائرهم، وعرفهم المسلمون وهجروهم، وحذر الله تعالى نبيه منهم فقال: {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:٤] ، أما صادق الإيمان فإنه يظهر صدقه ويظهر تصديقه بأعماله التي يعملها، فمن صار صادقاً من الصحابة عرفوا تصديقه بأقواله وبأعماله وبمحافظته.

وهكذا كل صادق فإن الله تعالى يؤيده ويظهر علامة صدقه.

وإذا كان هذا في الأمور العادية وفي أغراض الناس واحداً واحداً، حيث يعرف الصادق منهم من الكاذب، فيفضح الله الكاذب على رءوس الأشهاد في الدنيا وفي الآخرة، وإذا كان الناس يعرفون الصادق بالتجربة والكاذب بالتجربة؛ فكيف لا يعرف الكاذب المتنبئ؟ فلو أظهر ما أظهره من التحريف ومن التبديل ومن الكذب ومن السحر ومن الشعوذة وما أشبه ذلك، كما يجري على أيدي الكهنة والمتنبئين ونحوهم، فإن ذلك لا يخفى على الفطن.

وإذا جبل الله العبد على صفات حميدة عرف أنه لا يتقول على الله تعالى.