للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعتراف المسلمين بفضل الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدين]

يعترف المسلمون بفضل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ولأنهم ورثوا نبي الأمة وبلغوا شريعته ودينه، ودعوا إلى ما دعا إليه، ونشروا الإسلام بعده، وجاهدوا في سبيل الله، وأطاعوا شريعة الله، ونفذوا حدوده، فالنبي بلغهم الرسالة التي أرسل بها، وهم قاموا بتبليغها لمن بعدهم، ودعوا إليها قاصي البلاد ودانيها، فكانوا بذلك ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن ميراثهم هو أشرف ميراث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) هذا العلم الذي هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من الذي تحمله عنه؟ أليس هم الصحابة، وبالأخص الخلفاء الراشدون؟ من الذين بلغه بعده؟ إنهم صحابته، إنهم الذين بلغوه وعلموه الأمة، أليسوا هم قادة الأمة وسادتها؟ نعترف لهم بالفضل، ثم نعترف للخلفاء الراشدين بالأقدمية؛ لأنهم أفضل الأمة بعد نبيها، ونعترف لهم بأنهم أهل الولاية والخلافة والإمامة التي قاموا بها أتم قيام، فأجمعوا بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم على تقديم الخليفة الأول الراشد أبي بكر رضي الله عنه، ورأوه أهلاً للخلافة كما رآه نبيهم صلى الله عليه وسلم أهلاً للإمامة، كذلك أيضاً رأوه سباقاً إلى الخير، ورأوه عاملاً بالأعمال الصالحة، ورأوه أهلاً للخلافة لحنكته وحذقه وقوة تفكيره ومعرفته وذكائه وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وطول ملازمته، فلم يروا بداً من أن يبايعوه خليفة عليهم وإماماً وقائداً لهم، فكان ذلك عين المصلحة، فثبته الله في وقت اشتدت فيه الغربة، إذ إنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتد العرب عن الإسلام إلا ما شاء الله، وما بقي إلا أهل المدينة ومن حولهم، وهم الأعراب أن يغيروا على المدينة وأن يسلبوهم ما هم فيه، وأن يقتلوهم ويستأصلوهم، ولكن ثبت الله أبا بكر وربط على قلبه؛ فقابل أولئك الأعراب بقوة، وهزمهم شر هزيمة، ثم توالت الانتصارات على أيدي جيوشه الذين دفعهم لقتال المرتدين، فرجع العرب -في ظرف نصف سنة أو عدة أشهر- إلى الإسلام بعدما كانوا خرجوا عنه.

حتى قال قائلهم: أتانا رسول الله مذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر يعني: ما لنا ولطاعته؟ إنما طاعتنا للرسول حين كان بيننا! ولكن لما استخلفه الله على المسلمين كان ذلك عين المصلحة التي أيد الله بها الإسلام في ذلك الوقت العصيب، والظروف الشديدة، وقد سار فيهم السيرة الحسنة، وخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله، فلم يترك شيئاً كان يفعله النبي إلا فعله؛ كتوزيعه للأموال وللغنائم، وتقسيمه لخمس الخمس، وإعطائه لمن كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم من سهم ذوي القربى، وتوزيعه للصدقات، لم يأل جهداً أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما لم يعط فاطمة -كما زعموا- ميراثها من أبيها نقمت عليه الروافض، وطعنوا في خلافته، وطعنوا في إمامته، وصاروا يسبونه ويشتمونه زعماً منهم أنه خان الأمانة، وأنه خالف ما جاء من سيرة من قبله، وحاشاه من ذلك! معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخلف تركة، فقد ثبت عنه أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لم نترك شيئاً إلا أن يكون صدقة، وثبت أيضاً عن الحارث بن أبي ضرار أنه قال: (ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة) فهذه شهادة من هذا الرجل الذي ليس من قريش بل من بني المصطلق، وهو أخو إحدى أمهات المؤمنين، وهي جويرية أم المؤمنين، ومع ذلك أخبر بهذا الخبر فدل على أنه عليه السلام لم يكن وراءه تركة حتى يقول الرافضة: إن أبا بكر لم يعط فاطمة حقها، ما أعظم فريتهم! فهل هذا لشدة محبتهم لـ فاطمة؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لـ فاطمة منهم، فهي بضعة منه، ولو كان يعطيها لأعطاها في حياته لما جاءته تشتكي من العمل، وذكرت أن الرحى أثر في يديها، وتعبت من العمل، فطلبت منه أمة من السبي تخدمها، لكنه لم يعطها شيئاً من ذلك، بل باع ذلك السبي ووزع ثمنه على المستضعفين من أهل الصفة وغيرهم، وأرشدها وأرشد زوجها إلى التسبيح والتكبير والتحميد عند النوم وقال: (هو خير لكما من خادم) فكيف يزعم هؤلاء الرافضة أنهم يغارون لـ فاطمة والنبي عليه الصلاة والسلام يحرمها ولا يعطيها؟ كذلك أيضاً هو صلى الله عليه وسلم يقول لها: (سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) ولو كان عنده مال لأخذت منه في حياته، فكيف مع ذلك يقولون: إنه منعها من ميراثها، ومعلوم أيضاً أن الأنبياء لا يورثون، إلا أن الرافضة يتمسكون بآيات فيها شيء من ذكر الميراث، مثل قول الله تعالى في سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} [النمل:١٦] ، ويقولون: هذا دليل على أن الأنبياء يورثون، عجباً لهم! الآية إنما فيها ذكر إرث النبوة، بمعنى أنه ورثه في ملكه، فكان ملكاً بعده، وكان نبياً بعده، ومعلوم أن داود كان له كثير من النساء، وكذلك كان له الكثير من الأولاد، فكيف خص داود سليمان بالإرث؟ فالإرث هنا إنما هو إرث الملك، كذلك يستدلون بقول الله تعالى في سورة مريم في قصة زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:٥-٦] ، فيقولون: هذا دليل على أن زكريا طلب ولداً حتى يرثه، الله أكبر! كأن المال أكبر هم الأنبياء، لا والله! إنما أراد يرثني في النبوة والعلم، أي: يرث ما عندي من العلم، ويرث العلم الذي خلفه آل يعقوب، ويعقوب عليه السلام هو إسرائيل، أما أن يهتم بمن يرث ماله فحاشاه، ليست الدنيا أكبر همه حتى يطلب ولداً لأجل أن يأخذ المال الذي بعده، من الذي أعلمكم أن زكريا كان ذا أموال حتى يطلب ولداً ليأخذها؟ فهكذا ينقبون عن مثل هذه الآيات ليطعنوا في أبي بكر، ويدعون أنه حرمها من الميراث؛ فلأجل ذلك يكفرونه، ويضللونه، ويزعمون أنه خان الأمانة، وأنه خالف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقم بما قام به، وأنه بخس فاطمة حقها، وبخس علياً حقه، وأن علياً هو الإمام؛ لأنه هو الوصي، وغير ذلك من أكاذيبهم.

والصحابة ما اختاروا إلا من هو أفضلهم، ومن هو أهل للولاية، وقد مرت بنا أحاديث تدل على فضله، وأحاديث تدل على أولويته وأحقيته بالولاية وبالخلافة والإمارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.