[ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة]
قال المؤلف: [ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.
ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت؛ فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] .
يعني: من الحكمة في أنه أوجد المعاصي والطاعات، وأوجد في الدنيا عصاة ومطيعين، وأوجد أسباباً يتمكن بها البعض من مزاولة المعاصي أو تكون سبباً لانتشار بعضها، وبعضها تكون سبباً في الطاعات ونحوها، ويطول البحث فيها.
فمثلاً: العصاة أسباب معاصيهم كثيرة، فمنها الشهوات التي تتزين لهم، ومنها الدنيا التي تبسط على كثير منهم فيتمادون في المعصية، ومنها الهوى الذي يميل بكثير منهم، ومنها دعاة الضلال الذين يدعون إلى الباطل ويزينونه، ومنها وساوس الشيطان التي هي سبب للضلال والكفران ونحو ذلك.
كذلك أيضا أسباب الطاعة التي منها إرسال الرسل ودعاتهم، ومنها قراءة كتب الله، وما يكون بها من الاهتداء، ومنها دعوة المؤمنين إخوانهم إلى الله وترغيبهم في الخير وتعليمهم إياه، وذكر الطرق التي يتوصلون بها إلى الطاعات ونحو ذلك، فوجد في الحياة الدنيا طاعات ومعاص، ووجد فيها كفر وإيمان، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما ظهرت آثار أسماء الله.
فمن أسماء الله العزيز، الجبار، المنتقم، شديد العقاب، هذه الأسماء لو لم يكن هناك من يُعاقَب لم يظهر أثر اسم الله شديد العقاب، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصل أنه ينتقم من العاصي ولا حصل أنه يعاقب الباغي، فهذه من أسماء الله الحسنى، والتي تدل على كماله، فمن حكمة الله في إيجاد المعاصي ظهور آثار هذه الأسماء.
من أسماء الله: الرءوف، الرحيم، المعطي، المتفضل، ولو كان الناس كلهم على الإيمان الكامل ما حصل أنه رحم هؤلاء وعفا عن هؤلاء، وغفر لهؤلاء وتاب على هؤلاء؛ فإنه ليس هناك معاص ليتوب هذا منها، ولا يستغفر هذا منها فيغفر له، ونحو ذلك كما في الحديث: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) ، ولو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار ذلك.
كذلك أيضاً من أسمائه الحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار الحكمة، فمن حكمته أنه يعاقب هذا عقوبة في موضعها، ومن حكمته أنه يثيب هذا، من حكمته أن يعطي هذا ويمنع هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ونحو ذلك، فلا بد أن تظهر آثار هذه الأسماء، فقدر الله وجود هذه المعاصي حتى تظهر آثار هذه الأسماء التي هي من أسماء الله تعالى الحسنى.
هذا الكلام ونحوه استنبطه العلماء من وجود الطاعات والمعاصي، وكون الناس كلهم ليسوا على إيمان ولا على كفر، بل فيهم مؤمن وكافر، ومطيع وعاص، فقالوا: إن آثار هذه إنما ظهرت بوجود من يتوب الله عليهم بعد أن كانوا عصاة فالله هو التواب، ويقبل توبة عبده ويفرح بها.
كذلك هؤلاء يستغفرون فيغفر لهم، والله تعالى غفور رحيم، وهؤلاء يرحمهم ويتجاوز عنهم، والله غفور رحيم، وغير ذلك من الحكم في أسماء الله تعالى.