[شبهات القدرية حول علم الله السابق]
بعد ذلك أخذوا يوردون شبهات ويقولون: إذا علم الله أن هذا الإنسان يعمل كذا وأنه يعمل كذا، فلا بد أن يكون قادراً على أن يرده أو غير قادر على أن يرده.
فإذا كان قادراً على أن يرده فلم يرده، أصبح قد رضي بأفعاله التي هي المعاصي.
وإذا لم يكن قادراً، أصبح موصوفاً بالعجز، وما أشبه ذلك من هذه التشكيكات التي يوردونها على أهل السنة الذين يصفون الله تعالى بالعلم القديم.
وقد ذكر المؤلف جواب أهل السنة عن ذلك، فإن أهل السنة يقولون: إن كل ما وقع فإنه مراد، ولكن من ذلك ما هو مراد ومحبوب كالطاعات، ومنه ما هو مراد ومقدر كالمعاصي، فمن المراد المقدر ما علمه الله وقدره وقضاه على العبد، ولكنه كرهه شرعاً ولم يحبه، وتوعد عليه، والعبد عندما زاوله يوصف بأنه كافر أو عاص أو مجرم أو فاسق أو خاطئ أو مذنب، حيث ارتكب هذا وفعله بقدرة واختيار مستطاع له، فهو الذي يعاتب ويعاقب عليه، هذا هو معتقد أهل السنة في هذا، ولا يلزم من إرادته كوناً أن يحبه وأن يقدره وأن يريده شرعاً.
والله تعالى كما تقدم قد أعطى العبد قدرة يستطيع بها مزاولة أعماله، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق قدرتهم وإرادتهم ولو شاء لهداهم، ولكنه لحكمته البالغة أضل قوماً بعدله، وهدى قوماً بفضله، فله النعمة على من هداه، وله الحكمة على من أضله.
وأعطى كلاً منهم من الاستطاعة ما يزاول به أعماله، وهذا قد تكرر معنا في الرد على هؤلاء الذين يطيلون الجدل في مثل علم الله تعالى وإرادته، فنحن إذا قلنا: إن جميع ما في الوجود مراد قدراً، وكل ما هو حادث فهو معلوم لله قبل أن توجد المخلوقات ومراد كوناً وقدراً؛ بحيث إن الله قدره وإنه لو شاء ما حصلت هذه الأشياء، فإنه سبحانه لقدرته لا يمكن أن توجد معصية قسراً عليه بدون رضاه أو بدون تقديره، ولكنه لحكمته جعل هؤلاء من أهل الذنوب وهؤلاء من أهل الحسنات لحكمة منه، ولا شك أن الذين اختاروا هذا والذين اختاروا هذا لهم نوع من هذا الاختيار ليستحقوا ثواباً أو عقاباً، وحكمة الله تعالى خفية لا يطلع عليها العباد.
فهذه الدرجة التي ذكرنا وهذه المنزلة التي هي العلم السابق هو الذي لا يتغير، يعني يقال: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يمكن تغييره، يقول الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:٥١] ، هذا في المصائب، ويقول: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:٢٣] .
ويقول علقمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١] هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، يعني: يستسلم لما أصابه بقضاء الله تعالى وبقدره، فيكون بذلك قد اتقى الله حق تقاته، وقد علم أن ما حدث فهو بأمر الله تعالى وبتقديره، وفعل ما يقدر عليه وما هو مأمور به، واستسلم لأمر الله تعالى.
وقد تقدم لنا وتكرر أن إيماننا بالقضاء والقدر لا يستلزم أن نترك الأسباب والأفعال والأعمال التي نعملها، كما أننا لا نترك الأسباب الحسية في طلب المعاش؛ فكذلك في طلب الأجر الأخروي والحسنات الأخروية، فالعبد مأمور بأن يفعلها مع إيمانه بأنها مقدرة وأنها ستأتيه، ويؤمن بأن المصائب التي وقعت عليه لا بد منها، لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:١٥٤] ، ولقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] ، وهذا في الذين قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:٧٧] ، فتبين أن التحصن لا يدفع قدر الله تعالى الذي قدره.
فعلى كل حال فإن الإيمان بسعة علم الله تعالى وواسع علمه بتفاصيل المخلوقات، لا ينافي فعل الأسباب وحدوث المسببات بعد أسبابها.