[إظهار كمال قدرة الله تعالى]
ثم أيضاً من حكمة الله في إيجاد هذا الكفر إظهار قدرة الله، فالله تعالى قد أظهر قدرته العامة ووجدت آثارها، فمن آثارها عقوبات العصاة وما أنزل بهم من المثلات، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما أغرق هؤلاء، ولا أهلك هؤلاء بصيحة، ولا أرسل على هؤلاء الريح العقيم، ولا أهلك هؤلاء بعذاب يوم الظلة، ولا كذا ولا كذا.
فمن حكمة الله في إيجاد ذلك أن تعرف قدرة الله، حيث إنه ينتقم ممن عصاه ويعاقبه ويعجل له العذاب في الدنيا، ليكون ذلك دليلاً على العذاب في الآخرة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما كان في الآخرة إلا دار واحدة وهي الجنة، ولكنه تعالى قدر في الدنيا معاصي حتى يكون للدار الآخرة نصيب، فإنه خلق الجنة والنار، وهما صنوان، كما خلق في الدنيا الخير والشر، والإيمان والكفر، وكذلك سائر المتضادات، فجعل في الدنيا أضداداً وأزواجاً، وكل واحد مضاد للآخر، فمثلا الليل يقابله النهار، والنور تقابله الظلمة، والخير يقابله الشر، والذكر يقابله الأنثى، والبياض يقابله السواد مثلاً.
كذلك الطاعة مع المعصية، والكفر مع الإيمان، والعقوبة مع الثواب، والوعد مع الوعيد، فخلق الضدين دليل على كمال القدرة، فإذا رأى العبد خلق المتضادات آمن بكمال قدرة القادر حيث خلق هذه الأشياء.
ثم مع ذلك نحن نؤمن بأنه ما خلق شيئاً إلا وله فيه حكمة، ولا يجوز أن نعترض على الله بخلقه لشيء من مخلوقاته.
سمعت أو قرأت حكاية أن إنساناً رأى دابة الخنفساء فقال: لماذا خلق الله هذه الخنفسة التي لا فائدة فيها، وليس لها خلق جميل أو نحو ذلك؟ فاعترض على الله في خلقها، فابتلي بقرحة خرجت فيه، ولم يوجد لها علاج إلا خنفساء أحرقت وذر عليها رمادها فبرأ، فعرف بذلك أن الله ما خلق شيئاً إلا وله حكمة في ذلك، فلا يجوز أن تقول: ليس الله من خلق السباع، ليس الله من خلق هذه الحيات، ولا هذه الهوام التي ليس فيها إلا مضرة على العباد.
نقول: إنه خلقها لتعلم بذلك قدرته، ويعلم أنه قادر على خلق الأضداد، وليكون ذلك أيضاً آية من آياته: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فهذه المخلوقات كبيرها وصغيرها دالة على كمال قدرته، إذا تأملها الإنسان عرف بذلك كمال قدرة القادر، مع أن مخلوقاته لا تحصى دواب البر من طيور ومن دواب تدب على الأرض لا يحصيها إلا الله تعالى، وفي خلقها عجائب من عجائب الله.
دواب البحر مع كثرتها وتفاوتها وما أشبه ذلك؛ فيها عجائب من قدرة الله تعالى، فخلقها ليس عبثاً، حتى البعوضة والنملة والذرة ونحو ذلك من الدواب الصغيرة خلقها وله في ذلك حكمة , ولو كان على الناس مضرة من هذه السباع التي تأكل دوابهم، أو من هذه الحيات والهوام ونحوها، أو من هذا الذباب الذي يقع على طعامهم أو عليهم، أو من هذا البعوض الذي يقرصهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى حكيم.
وأيضاً فإنه له الحكمة حتى فيما يجلبه من الأمراض ونحوها، فهذه الأمراض التي يسلطها على من يشاء لا يجوز أيضاً أن يعترض على الله بها، ولا يقال: ليس الله من خلق الحمى ولا من خلق المرض، بل الله له الحكمة في خلقه وفي أمره.
وبكل حال: فإن هذه الأشياء مرادة، ولكن لأجل الحكمة ولأجل إظهار القدرة وكمالها.
فيقال أيضاً: كذلك في الحكمة في خلق إبليس، والحكمة في خلق أعوان إبليس الذي هو مادة الشر ونحوه، والحكمة من خلق الكفار وانتشارهم، وكذلك في تقويتهم وإمدادهم بالقوات وبالذخائر ونحو ذلك، والحكمة مثلاً في تمكينهم من الأعمال التي عملوها، ومن تسليطهم أحياناً على المؤمنين؛ لا شك أن الله تعالى له الحكمة في ذلك، فلا يعترض على الله، بل يؤمن العبد بأنه هو القادر على كل شيء، وأن ذلك دليل على كمال قدرته وتمام تصرفه.