كان من جملة ما مر بنا من أمور العقيدة: مسألة المحبة والبغض، والولاء والبراء، وهو أن أهل السنة يحبون أهل الإيمان وأهل التقوى، ويبغضون أهل الكفر والعناد، يحبون أهل الطاعات، ويبغضون أهل المعاصي، وينتج من آثار هذا: الولاء لمن يحبونه، والبغضاء والمعاداة لمن يبغضونه، ويكون الولاء والبراء هو آثار الطاعات وآثار المعاصي.
ولا شك أن هذه سمة وصفة مدح الله بها أولياءه، ومدح بها صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لما ألف الله بينهم، وجمعهم على الإيمان وعلى تقوى الله تعالى؛ تآلفوا فيما بينهم، وصار بعضهم يحب بعضاً ويألف بعضهم بعضاً، ويوالي بعضهم بعضاً، ويقرب بعضهم بعضاً، بل وصفهم الله تعالى بقوله:{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:٩] ، وهل هناك وصف أكبر من هذا الوصف؟! (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) يقدمون إخوتهم في ذات الله تعالى على مصالحهم الدنيوية، ويقدمونهم على شهواتهم الدنيوية، فيؤثر أحدهم أخاه بالطعام ويبيت جائعاً! ويؤثره بالشراب ويبيت ضمآن، ويؤثره بالكسوة الجميلة، ويؤثره بالمكان المريح، ويؤثره بالمركب اللين، وذلك من باب المحبة التي رسخت في قلوبهم، فهم لما أحبوا الله تعالى أحبوا أولياءه، وأحبوا من يحبه، ومحب المحبوب محبوب، هكذا وصفهم الله تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}[الأنفال:٦٣] مع تباعدهم في الأرحام، وتباعدهم في الأنساب، وتباعدهم في البلاد، ولكن جمعهم وصف الإيمان، فتآلفت قلوبهم، ولو كانوا قبل ذلك متعادين ومتقاتلين ومتناحرين، فقبل الإسلام كان بعضهم ينهب بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وذلك لأنه لم يوجد إيمان يؤلف بينهم، ولم يوجد إيمان يجمع بينهم.
فلما مَنَّ الله عليهم بهذا الإيمان تآلفوا وتقاربوا، وتآخوا، وهذا من الله تعالى لا من خلقه، ولهذا امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعهم عليه فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}[الأنفال:٦٢-٦٣] ، فتأليف القلوب هو اجتماعها وتحابها وتوادها، ولو كانوا متباينة أنسابهم، فبعضهم من الحبشة كـ بلال، وبعضهم من الروم كـ صهيب، وبعضهم من الفرس كـ سلمان، وبعضهم من العرب، وبعضهم من العجم، ولكن جمعهم الوصف الوحيد الذي هو الإيمان بالله تعالى، فلنا بهم قدوة، فعلى كل المسلمين في كل زمان وفي كل مكان أن يتآلفوا فيما بينهم، ويتوادوا ويتحابوا.
ومن آثار التواد لأجل الإيمان: البغض لأجل الكفر والنفاق، وذلك لأن الكفر والإيمان ضدان لا يجتمعان، فلا يجتمع أن تحب الله وتحب أعداءه، فإذا أحببت الله أحببت أولياءه أهل طاعته، وإذا أحببت أولياءه فلابد أن تبغض أعداءه، ولابد أن تبغض من يبغضهم الله، وتقاطعهم وتعاديهم، وتبتعد عنهم كل الابتعاد، وذلك لأن ربك الذي أنعم عليك يبغضهم، وأنت تبغضهم لأجل ذلك، ومبغض المبغوض عند المحبوب مبغوض، الذين يبغضهم محبوبك لابد وأن تبغضهم.
وهذا ما جرى للصحابة ومن بعدهم، فإن الله تعالى مدحهم فقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:٢٢] لا تجدهم يوادون أهل المحادة، لا تجدهم إلا يباعدونهم ويبغضونهم، وتجدهم قد مقتوهم وحقروا شأنهم، وكرهوا مجالستهم، وقطعوا الصلة بهم، ونفروا ونفَّروا منهم، وأذلوهم وحرصوا على إهانتهم بكل ما يستطيعون، وإذا استطاعوا أن يقاتلوهم قاتلوهم ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم أو عشيرتهم، ضرب الله مثلاً بهؤلاء الذين هم أقرب الأقارب، فإذا كان الله تعالى يبغضهم لأجل كفرهم، ولأجل معصيتهم، ولأجل خروجهم عن الاستقامة، فإن المؤمن يبغضهم، ولو كانوا أقارب، لأجل الخروج عن طاعة الله.