[الإيمان بالملائكة الحفظة]
الإنسان معه ملك، ومعه شيطان، والمراد بالملك: جنس الملائكة، فيكون الإنسان معه ملائكة يدعونه إلى الخير ويحثونه عليه، وملائكة يحفظونه، وملائكة يكتبون أعماله.
الملائكة الذين يحفظونه هم الذين يقول الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:١١] وفسرها بعض المفسرين بقوله: يحفظونه بأمر الله، أي: يحفظونه بأمر الله امتثالاً لأمر الله تعالى، فإذا جاء القدر الذي قدر الله عليه خلوا بينه وبينه.
ثم هؤلاء الملائكة الذين هم الحفظة يكتبون السيئات والحسنات، وسمعنا الحديث المشهور في الصحيح، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن من كرم الله وفضله الواسع على عباده، أن الذي يهم بحسنة ولا يعملها يكتبها الله حسنة، والذي يهم بها ويعملها يكتبها عشراً، والذي يهم بسيئة ولا يعملها يكتبها الله حسنة، وإذا هم بالسيئة وعملها كتبها الله سيئة واحدة بدون مضاعفة، وإذا رزقه الله توبة منها محيت عنه لتوبته، وإذا أصر عليها وعمل سيئة إلى جانب سيئة وإلى جانب سيئات أخرى تكاثرت عليه، وتراكمت عليه، وأصبح مثقلاً بالسيئات، ولكن قد أخبر الله تعالى بأنه يمحوها بالتوبة ويمحوها بالحسنات، فقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) يعني: متى وقعت في سيئة فأتبعها بحسنة، إما حسنة التوبة وإما حسنة العمل الصالح وإما غير ذلك.
وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، وبينوا المراد منه، وأطالوا الكلام في ذلك، وملخص ما ذكروا أن الذي يهم بحسنة ثم يتركها عجزاً أو تعباً أو نحو ذلك يكتبها الله له حسنة وإن لم يعملها، هم مثلاً بأن يتصدق على مسكين، ولكن لم يجد في ذلك الوقت شيئاً، وفاتت حاجته، يكتب الله له كأنه تصدق، يكتبها له حسنة، هم مثلاً أن يقوم في آخر الليل للصلاة، ولكن غلبه النوم، أو الكسل، أو التعب، ولم يتيسر له القيام، يكتب الله له كأنه قام، ويكتب له بذلك حسنة، فإذا يسر الله له فتصدق أو صلى أو صام، أو جاهد، أو ذكر الله، أو قرأ فإن الحسنة بعشر أمثالها، فضلاً منه سبحانه، فيكتب الدرهم بعشرة دارهم، وتكتب الركعة بعشر ركعات، والمراد بهذا في الأوقات العادية، وقد تضاعف أضعافاً أخرى في أوقات أخرى، هذا بالنسبة للحسنات، أما بالنسبة للسيئات فإذا هم بالسيئة ولكن تذكر أنها سيئة، وتذكر عقوبتها، وتذكر الإثم، وتذكر آثارها على قلبه، وآثارها على سيرته، وآثارها في دنياه وآخرته، فعند ذلك تركها من جراء الله، يقول في الحديث: (إنما تركها من جرائي) ، فهذا يكتب له حسنة، ما عمل سيئة، ولا عمل حسنة، ولكنه هم بسيئة ثم تذكر فخاف الله تعالى فتركها، يكتب له بهذا الترك حسنة، يقول الله: (إنما تركها من جرائي) .
أما إذا غلبته نفسه وعمل تلك السيئة كتبها الله بمثلها، والسيئات تتراكم، سيئات النظر، وسيئات السمع، وسيئات الكلام، وسيئات الأكل والشرب، وسيئات المكاسب، لا شك أنها تتراكم، وبكل حال فإذا عملها كتبها الله بمثلها حتى يتوب منها.
أما إذا تركها عجزاً، فبلا شك أنه يأثم على نيته، فلو مثلاً هم بزنا، وبذل الأسباب، وجاء إلى المكان الذي هو معد للزنا أو نحو ذلك، وحاول فتح الأبواب، وحاول الصعود مع السلالم أو مع الحيطان، ولكنه لم يجد منفذاً، أو عثر عليه الحرس، وقبضوا عليه وطردوه؛ فمثل هذا يجازى على فعله؛ وذلك لأنه ما تركها خوفاً من الله، وإنما تركها عجزاً، وكذلك لو هم بسرقة ولكنه ما قدر، حاول أن يكسر الأبواب، حاول أن يفتح الأقفال ولكنه ما قدر على ذلك، فهذا تكتب عليه سيئة، وكذلك لو هم بحسنة ولكن دعته نفسه إلى تركها تهاوناً ليس عجزاً، فمثل هذا أيضاً قد لا يثاب على تركه للحسنة، ولا يكتب له حسنة، وفي بعض الروايات: (لم يكتب عليه شيء) .
إذاً: الحديث هذا مخصوص بما إذا ترك السيئة خوفاً من الله، وترك الحسنة عجزاً عنها أو لعدم توافر أسبابها، وإلا فقد يجازى بما نوى.
وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً -يعني: علماً دينياً- فهو يعمل في ماله بعلمه) ، يصل الرحم، ويتصدق على ابن السبيل، وينفق في الجهاد، وينفق في وجوه الخير، ويبني المساجد والمدارس، وينشر العلم، قال: (يعمل بعلمه في ماله، فهذا بأفضل المنازل) يعني: بأرقاها، نفعه علمه في تصريف ماله.
قال: (ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمله) ، أعطاه الله العلم فيتمنى أن يكون له مال حتى يصل الأرحام، وحتى يعطي الأقارب، وحتى يتصدق على الفقراء والمساكين، وحتى يعطي أبناء السبيل، وحتى يجهز الغزاة، وحتى ينفق في وجوه البر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته وقصده، وهما في الأجر سواء) .
قال: (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً) ، حرمه الله من العلم، ورزقه الله أموالاً، فهو ينفقها في المعاصي، ينفقها في كل معصية، ينفقها في قطيعة الرحم، وينفقها في القتل، وينفقها في الملاهي، وينفقها في المعاصي بأنواعها: في الزنا وفي الغناء وفي كذا وكذا، ينفقها فيما يبعده من الله؛ لأنه ما عنده علم، ولا عنده معرفة بمآل هذا المال، ولا بما يكسب فيه الأجر، فهذا بأخبث المنازل.
قال: (رجل لم يؤته الله مالاً، ولم يؤته علماً) ، ولكن يتمنى أن يكون له مال مثل ذلك الجاحد، (يقول: لو كان لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمله) ، يعني: لقطعت الطريق، ولسافرت إلى المعاصي، ولصرفته في الأغاني وفي آلات اللهو، ولفعلت وفعلت، يتمنى؛ لأنه ما عنده علم، وما عنده مال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهما في الوزر سواء) ، فأخذنا من هذا أن من نوى الشر وإن لم يعمله وحرص عليه فإنه يجازى على نيته، فليس كل من نوى الشر وتركه يثاب، إنما يثاب إذا تركه لله وخوفاً من الله.