للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظمة العرش]

ابتدأ في الإيمان بالغيب، ومن جملة ما أخبر الله به من الأمور الغيبية: العرش والكرسي، فذكر الله العرش في هذه المواضع في القرآن، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وذكر الكرسي في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥] ، وذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في سبع آيات من القرآن: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:٥٩] .

وقد أنكر حقيقة العرش بعض المبتدعة، فقال بعضهم: العرش: هو الملك، فقوله: (استوى على العرش) أي: استوى على الملك.

وهذا باطل، بل العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ولهذا ذكر الله عن ملكة سبأ هذا العرش في قوله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:٢٣] ؛ وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:٣٨] ؛ وقوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:٤٢] ، فدل أن العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك.

أما العرش الذي خصه الله تعالى بالاستواء فهو من الأمور الغيبية لا يحيط بوصفه إلا الله عز وجل، ورد في بعض الآثار في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥] ، قال بعض الصحابة: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) ، الترس: هو المجن الذي يقي المقاتل به ضربات السلاح، والدراهم: واحدها درهم، قطعة من الفضة صغيرة كانوا يتعاملون بها، ماذا تشغل سبعة دراهم إذا جعلت في الترس؟ وماذا تغطي منه؟! لا شك أن هذا دليل على عظمة هذا الكرسي، فالسماوات السبع؟ والأرضون السبع من يحيط بها إلا الله عز وجل! كذلك ورد أيضاً أن الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، جاء في بعض الأحاديث: (الكرسي في العرش كحلقة ألقيت بأرض فلاة) ، الحلقة: هي الحديدة المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت بأرض فلاة فماذا تشغل من تلك الأرض؟ هذا الكرسي الذي وسع السماوات والأرض هو بالنسبة إلى العرش كما ذكر، فإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة الخالق الذي هو رب العرش ورب كل شيء؟! وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) ، والخردل حبه صغير في غاية الصغر؟! فكل هذا دليل على عظمة الله عز وجل، وأن هذه المخلوقات حقيرة بالنسبة لعظمته وجلاله وكبريائه، والعبد إذا استحضر عظمة الله فإنه يمتنع أن يقدم على معصيته، ويمتنع أن يغفل عن ذكره، ويحمله هذا الاستحضار على أن يعظم ربه غاية التعظيم، وأن يخافه غاية الخوف، وأن يجله ويبجله، وأن يصغر كل مخلوق عنده، فكل مخلوق -مهما كان قدره- يكون حقيراً وصغيراً بالنسبة إلى عظمة الخالق وجلاله وكبريائه.

هذا هو السبب في كون الله تعالى وصف نفسه بالعظم، ووصف أيضاً العرش الذي خصه بالاستواء بالعظم في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:١٥] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:١٢٩] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٦] .

وذكر الله العرش في عدة آيات مما يدل على أنه عرش حقيقي تطوف به الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:٧] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:٧٥] ، وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:١٥] أي: رب العرش، أي: مالكه وخالقه.

فهذه الأدلة تدل على أنه ليس كما تقول المعتزلة: إن العرش هو الملك، بل العرش مخلوق قد خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، ولكنه عظيم لا يحيط به إلا الله عز وجل، ولا يعلم قدره إلا الله، والمخلوقات كلها صغيرة وحقيرة بالنسبة إليه، والله تعالى أعلم بحقيقته، وإنما على المؤمن أن يؤمن بما أخبر الله به، وأن يفوض علم الغيب إلى الله.