[التوفيق بين إخباره صلى الله عليه وسلم عن فضله والنهي عن تفضيله]
وسبق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:(أنا سيد الناس يوم القيامة) ، وكذلك قوله:(أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول ذلك افتخاراً، وإنما هو من باب التحدث بنعم الله، عملاً بقوله:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:١١] ، وذكر السبب وهو أن الناس يوم القيامة يطلبون من يشفع لهم، فيأتون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم وموسى وعيسى يطلبون منهم الشفاعة فكلهم يعتذر، حتى يأتون إليه عليه الصلاة والسلام فيكون بذلك سيداً حيث شفع، ولا شك أن هذا السبب الذي هو الشرف والمنزلة تُوجب له فضلاً وشرفاً.
وأما دليل النهي فما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قيل له:(أنت سيدنا، قال: السيد الله) ، وفي حديث وفد بني عامر عن عبد الله بن الشخير قال:(أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، فقالوا: أفضلنا فضلاً، وأعظمنا قولاً.
قال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) إلى آخره.
ولعل الجمع بينهما أن نهيه عن قولهم:(سيد) هو مخافة أن يغلوا فيه؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فخاف أنه إذا أقرهم على هذه اللفظة أعطوه من خالص حق الله فمنعهم وقال:(السيد الله) ، وأمرهم بأن يقولوا:(عبد الله ورسوله) ، ولا يتكلموا بألفاظ فيها من الزيادة والغلو، هكذا أخذ بعض العلماء، وهو جواب مقارب، وهو أنه فيمن يخاف عليهم الغلو، ومع ذلك فإن أفضل ما يوصف به اللفظ الذي اختاره لنفسه، وهو العبودية مع الرسالة والنبوة، وصفه الله بالعبودية وبالرسالة وبالنبوة، فهذه الأوصاف التي وردت له في القرآن، فنقول: نبي الله، وعبد الله، ورسول الله، وهذا ولا يمنع أن نقول: سيدنا وسيد ولد آدم.
وقد مر في كلام الشارح أنه قد يعتذر أحد ويقول: كيف يكون سيد المرسلين وأفضل النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام قد اعترف بأن موسى أفضل منه، حيث قال:(لا تفضلوني على موسى) ؟ وأجاب الشارح كما سمعنا أن هذا في الرد على من يتعصب لشخص بعينه؛ فإن ذلك الأنصاري رضي الله عنه غار عندما سمع اليهودي يقول: والذي اصطفى موسى على البشر.
فغار ولطم اليهودي، وقال: تقول هذا ومحمد بين أظهرنا؟ يعني أنه أشرف، وأنه الذي اصطفاه الله على البشر، فأمر بألا يفاضل بين الأنبياء، وأمر بألا يفضل على موسى من باب الاعتراف بفضل موسى، ومن باب التواضع منه عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد عرف بأنه أفضل من غيره، ولو لم يكن من فضله إلا أنه الذي يشفع، والذي يبعثه الله مقاماً محموداً، والذي تقبل شفاعته فيقال له:(ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع) .
وكذلك ذكر السبب، وهذا السبب قد يكون مبرراً ولكن لا يقصد الفضل، فكون الناس يصعقون يوم القيامة الصعقة المذكورة في قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:٦٨] فأخبر بأن الناس يصعقون وبأنه أول من يفيق ويرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، لكن يجد موسى قد أفاق قبله وقد أخذ بقائمة العرش، فيقول:(لا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله، أم جوزي بصعقة الطور) ، وصعقة الطور في قوله تعالى:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}[الأعراف:١٤٣] يعني: أن تلك الصعقة صارت حظه من الصعق، فلم يصعق لما صعقوا، أو هو ممن استثنى الله في قوله:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ}[الزمر:٦٨] يعني: أنه ممن لم يصعق، أو أنه أفاق قبله، وإذا كان ممن أفاق قبله كان له مزية، أما إذا جوزي أو كان ممن استثنى الله فلا يدل ذلك على ميزة أو على فضل على محمد عليه الصلاة والسلام.
وبالجملة فمحمد عليه الصلاة والسلام أفضل الرسل، وأمته أفضل الأمم، بل وأكثرهم دخولاً الجنة، فالذين يدخلون من أمته الجنة أكثر من أمة موسى وغيره من الأنبياء.