لا شك أن العقول نعمة من الله على الإنسان، وأنه سبحانه منّ على هذا النوع الإنساني بأن ميزه بهذا الفهم، وهذا الإدراك، وهذا العقل الذي كلّفه لأجله، فالله تعالى ما كلف البهائم والدواب والوحوش والحشرات وبهيمة الأنعام؛ لأنها ليس لها عقول.
فالنوع الإنساني ميزه الله بهذا العقل؛ بحيث إنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، ويعرف ما يقال له، ويتفكر فيمن خلقه، وفيما بين يديه وما خلفه، وجعل الله هذا العقل ينمو شيئاً فشيئاً، وجعله أكبر مِنّة، وجعل الذين يتفكرون ويتدبرون هم أهل العقول، وكثيراً ما يقول:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:٤] يعني: لا ينتفع بها إلا العقلاء، ويقول:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الرعد:٣] أي: يتفكرون بعقولهم، وكثيراً ما يأمر الله بالتفكر في المخلوقات كقوله:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[يوسف:١٠٩] ، وقوله:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}[المؤمنون:٦٨] ، وقوله:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ}[ق:٦] يعني: نظر عبرة، وقوله:{أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[الأعراف:١٨٥] ، والتفكر لا يكون إلا بالعقول، فإذا عرف ذلك فإن العقل هو ميزة الإنسان، وإذا فقد العقل فقد خصيصته، وفقد ميزته وفضيلته، والتحق بالبهائم؛ بل قد يكون أشر حالة من البهائم؛ فإن البهائم معها عقول معيشية، بمعنى: أنها تتبع مصالحها، وتطلب أسباب نجاتها، وتعرف ما يلائمها وما يناسبها من المآكل ومن المشارب ونحوها.
وأما من سلب عقله، فإنه لا يميز بين التمر والجمر، ولا يميز بين التراب والماء، ولا يميز بين الطعام الذي فيه سم والذي فيه دسم! وذلك لأنه فقد ميزته التي تميز بها، فأصبح بذلك أقل حالة من البهائم، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن الذين فقدوا عقولهم في الدنيا يعني: عاقبهم الله بأن أذهب عقولهم، أو ولدوا وهم مجانين، أو حصل لهم مرض ذهبت فيه عقولهم، ما هي حالتهم؟ هل يكونون أفضل من العقلاء عند الله؟
الجواب
ليسوا أفضل، وإنما أقل حالاتهم: أنهم معذورون يرفع عنهم التكليف، فلا يعاقبون، ولا يُقتل أحدهم إذا قتل؛ لأنه لا عمد له؛ وكذلك لا يُجلد لو زنى، ولا يُقطع لو سرق؛ وذلك لفقد العقل؛ لأن العقل يعقل صاحبه، يعني: يقيده عن أن يتقدم إلى ما فيه مضرة، وهؤلاء ليس عندهم ما يعقلهم ولا ما يقيدهم.