[لا يكون أحد بعد الصحابة أفضل منهم]
فضائل الصحابة رضي الله عنهم أكثر مما سمعنا، ولو لم يكن إلا هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، وكذلك هذا الأثر عن بعض الصحابة: (لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عبادة أحدكم عمره -وفي رواية- خير من عبادة أحدكم أربعين سنة) وما ذاك إلا لأنهم آمنوا في وقت أزمة وشدة، وفي وقت كفر وضلال، وفي وقت شرك وعبادة أوثان، فآمنوا واهتدوا، واعتنقوا الإسلام، وفارقوا الأهل والبلد والمال، وأخلصوا دينهم لله، ووقرت محبة الله ومحبة رسوله في قلوبهم، وثبت الإيمان ورسخ في قلوبهم حتى كان أرسى من الجبال، ثم ظهرت عليهم آثار ذلك ففدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهاتهم، وبأنفسهم وبأموالهم، وأنفقوا كل ما يملكونه طاعة لله وطاعة لرسوله، واجتهدوا في العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه، فتفوقوا على من جاء بعدهم بأضعاف مضاعفة، من الذين ولدوا في الإسلام، والذين نشئوا فيه ولو كانوا أكثر منهم عملاً، ولو كانوا أطول منهم أعماراً، ولو كانوا أكثر منهم جهاداً، أو أكثر منهم نفقات، لكن النفقة من أولئك مضاعفة أضعافاً كثيرة كما في هذه الآثار، فهذا من جهة.
ومن جهة ثانية: ما جاء في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [المائدة:١١٩] ، لا شك أنه مدح لهم وإخبار بأن الله قد رضي عنهم، وفي قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:١٠٠] إخبار بأنهم من أهل الجنة، وخبر الله تعالى صادق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧] ، وفي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة} [التوبة:١١٧] يعني: غزوة تبوك، وكانوا حينها أربعين ألفاً أو نحو ذلك، فذكر الله تعالى أنه تاب عليهم كلهم، فلم يستثن منهم أحداً، وكذلك ما أخبر الله عز وجل من أنه رضي عن طائفة منهم وهم أهل بيعة الرضوان في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨] ، وأخبر بأن بيعتهم كأنها بيعة مع الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح:١٠] ، وحاشاهم أن ينكثوا بيعة الله، وحاشاهم أن يكذبوا في مبايعتهم، سواءً كانت مبايعتهم على الموت أو مبايعتهم على ألا يفروا، روي أنه لما نزل أول سورة الفتح وفيها قول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:٢] قالوا: (هنيئاً لك يا رسول الله! فما لنا؟ فقرأ عليهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:٤] إلى قوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح:٥] إلى قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:٢٦] ) كل هذا اختص بأولئك الصحابة، ولكن الرافضة طمس الله تعالى على قلوبهم، وأعمى بصائرهم؛ فصدوا عن هذه الآيات، ولم يتفكروا فيها، وأخذوا ينقبون الآيات التي وردت في المنافقين، ويطبقونها على الصحابة {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] .
ونقول لهم: متى سخط الله عليهم بعد الرضا؟! ومتى لم يتب عليهم بعد أن تاب عليهم؟! لا شك أن الله تعالى لا يخلف وعده، وأنه قد صدقهم ما وعدهم، لما صدقوا الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:٢٣] هذه صفات الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء في كلام ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ونظر في قلوب الأمم فوجد قلوب أصحابه أبر وأزكى وأطهر فاختارهم لصحبته) اختارهم الله لصحبة هذا النبي، فدل هذا على أن الصحابة رضي الله عنهم هم خلاصة الأمة وهم صفوتها.
وتقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أبر هذه الأمة قلوبا، ً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولحمل دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) شهادة منه رضي الله عنه بأنهم كانوا على الهدى، وأن من خالفهم وخرج عن طريقتهم فليس على الهدى، بل هو على الضلال.
فالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة الشاهدة بأن الله رضي عنهم أكثر من أن تحصر، ولكن كما قالت عائشة رضي الله عنها في الأثر الذي تقدم: (لما انقطع عملهم بموتهم، أجرى الله لهم حسنات غيرهم) ، فهؤلاء الذين يسبونهم ويحقدون عليهم، إنما يهدون إليهم حسناتهم وأجور أعمالهم، فهم يعملون ويتصدقون ويصلون ويقرءون ويركعون، ولكن يذهب ثواب أعمالهم إلى أولئك الصحابة الذين سبهم هؤلاء.
وروي ذلك أيضاً عن الإمام أحمد أنه قال: (ما أرى الناس ابتلوا بسب الصحابة إلا ليجري الله لهم عملهم) ؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ولكن إذا كان هناك من يسبه فإنه يأخذ من حسنات الذين يسبونه، وتضاف إلى حسناته كما ورد ذلك في الأحاديث، فيكون ذلك رفعة له، وزيادة في درجاته، وزيادة في أعماله.
كذلك تقدم قول ابن مسعود: (فما رآه المسلمون حسناً -يعني: الصحابة- فهو عند الله حسن) وقد رأى المسلمون -يعني: الصحابة- أن أبا بكر رضي الله عنه أولى بالخلافة فاتفقوا عليه، وولوه أمر المسلمين، فذلك بلا شك اتفاق منهم على أهليته، وعلى أفضليته، وعلى أحقيته بالخلافة، ولهذا سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بلا شك أهل لهذه الخلافة، ولهذا قام بها أتم قيام، وصمد فيها وصبر، وعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدم أيضاً ما ذكر عن اليهود والنصارى مما يبين أن اليهود خير من الرافضة، والنصارى خير من الرافضة؛ لأن اليهود يقولون: أفضل بني إسرائيل أصحاب موسى، والنصارى يقولون: أفضل أتباع عيسى أصحابه الذين هم معه، وهم الحواريون، أما الرافضة فهم يقولون: شر هذه الأمة أصحاب محمد، فتفوقوا على اليهود، يعني: صاروا بذلك أشر من اليهود؛ لأن اليهود فضلوا أصحاب موسى، والنصارى فضلوا أصحاب عيسى، والرافضة تفوقوا عليهم في الكفر وجعلوا أشر قرون هذه الأمة وأكفرها وأضلها وأدناها وأبعدها عن الحق هم أصحاب محمد، ولم يستثنوا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا أفراداً قليلين كـ علي وأولاده، وعمار وسلمان وخباب ونحوهم، وكذلك الذين هم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القدامى كـ حمزة ونحوه، أما بقية الصحابة فإنهم عندهم ضلال وكفار! قاتلهم الله أنى يؤفكون، فلا يغتر بقولهم، وبذلك يعرف أفضلية هؤلاء الصحابة، وأما أهل السنة والحمد لله فلا يشكون في ذلك، ولكن من باب التأكيد والتقرير حتى يعرف كفر وضلال هؤلاء الرافضة.