فاقتضاهم هذا النظرَ فيما تفيده صيغة النهي من جهة اللغة والشرع: ففي اللغة: وجد أنه للمنع من الفعل والحظر عنه، ولا دلالة فيه على صحة التصرف أو بطلانه، كما هو اختيار جمهورهم. وفي الشرع: وجد أن فيه أصلين متعارضين لا يمكن اجتماعهما في ذات التصرف. "الأصل الأول": أن النهي يفيد في المنهى عنه صفة القبح ضرورة حكمة الناهي تعالى؛ إذ لا ينهى إلا عما هو قبيح، كما لا يأمر إلّا بما هو حسن "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر". "الأصل الثاني": أنه يوجب تصور المنهى عنه؛ لأن النهي ابتلاء من الله تعالى لعباده، والابتلاء يعتمد الاختيار والكسب، وهو لا يكون إلا إذا كان المنهى عنه متصور الوجود بحيث لو أقدم عليه يوجد، فيبقى العبد مبتلًى بين أن يقدم على الفعل فيعاقب أو يكف عنه باختياره فيثاب، فيكون عدم الفعل، مضافًا إلى كسب العبد، هذا هو موجب حقيقة النهي. فإن أمكن الجمع بين هذين الأصلين: أي اقتضاء القبح وتصور الوجود عمل به العلماء، ففي الأفعال الحسية أمكن الجمع، لأنه لا يمتنع وجود الحسى بسبب القبح، فكانت التصرفات الحسية المنهى عنها من نحو الزنى والقتل وشرب الخمر قبيحة لذاتها محرمة غير مشروعة أصلًا باتفاقهم. وفي التصرفات الشرعية لم يمكن الجمع بين هذين الأصلين؛ لأن أدنى درجات المشروعات أن تكون مرضية للحكيم العليم، والقبيح لا يكون مرضيًا له تعالى، فلم يمكن الجمع بين المشروعية والقبح في التصرف الشرعي، فصار العلماء إلى الترجيح. فذهب الشافعي إلى ترجيح جانب القبح وإبطال المشروعية التي هي الاعتبار الشرعي في التصرف، ذاهبًا إلى أنه يكفي لكون النهي ابتلاء تصور الوجود الحسى من غير اعتبار من الشارع، والحقيقة الشرعية لا يشترط لتحققها اعتبار الشارع. فالنهي عند الشافعية يفيد البطلان في التصرفات الشرعية لمضادة القبح والتحريم للاعتبار الشرعي، كما في كثير من التصرفات المنهى عنه، وما وجد من التصرفات المنهي عنها ولم يفد النهي بطلانه فإنما كان ذلك لدليل وقرينة. وأقاموا الأدلة على ذلك. وذهب الحنفية إلى ترجيح جانب المشروعية في أصل التصرف، وصرف النهي إلى الوصف =