للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالُوا: الْعُرْفُ شَرْعًا - مُخْتَلِفٌ فِي الْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ.

قُلْنَا: مُخْتَلِفٌ؛ لِلاخْتِلَافِ؛ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا اسْتِوَاءَ؛ لِتَرَجُّحِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

الشرح: "قالوا: العُرْفُ شَرْعًا مُخْتَلَفٌ"، فيقال: "في الكمال" تارةً، "و" في "الصِّحَّة" أخرى، فكَانَ مُتَردِّدًا بَيْنَهُما، وَلَزِمَ الإجْمَالُ.

"قلنا: مُخْتَلَفٌ" كما ذَكَرْتُم، وَلَكِن "الاخْتِلَاف" في أنَّهُ ظَاهِرٌ في نَفْي الصِّحَّةِ أو نَفْيِ الكَمَال، فَكُلُّ ذِي مذْهَبٍ يَحْمِلُهُ على مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِ عِنْدَه، لَا أَّنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، فهو ظَاهِرٌ عِنْدَهُمَا لا مُجْمَل. غَايَة الأَمْرِ: أَنَّ كُلًّا منهما يَجْعَلُهُ ظَاهِرًا في خِلَاف مَا جَعَلَهُ صاحِبُه، فلا إِجْمَال، "ولو سُلِّم" أنه مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، "فلا اسْتِواء" لهما بالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، أي: لَيْسَ التَّرَدُّدُ على السَّوَاءِ، بَلْ نَفْيُ الصِّحَّةِ أوْلَى؛ "لترجُّحِه" بما ذَكَرْنَاه" مِنَ الْقُرْبِ إِلى نَفْي الذَّات.

واعْلمْ أن المَسْأَلَة معْقُودَةٌ في صِيَغٍ تَرِدُ فِي الشَّرع نَافِيَة لِذَوَات واقِعَةٍ، وهذا قَدْ جاء الشَّرْعُ به تَارَةً في قَالَبِ الْإِثْبَاتِ، وتارةً في قَالَبِ النَّفي.

أمَّا الإثبات: فمِثْل ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [سورة النساء الآية ٢٣]، ومَعْلُوم أن نَفْس الأُمِّ لا تُحَرَّم، والْمُحَرَّمُ مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ ذَاتِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مذكورٍ، فالْمَنْطُوقُ غَيْر مُرادٍ، والْمُرادُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ، وهذا تقدَّم.

وأمَّا النفي: وهو مسألتُنَا نحو: لا عمل إلا بِنِيَّة (١)،: لا صِيَامَ لمن لم يُبيِّتِ الصِّيَامَ مِن اللَّيْل،: لا صَلَاةَ إِلّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ،: لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ، فمن يَقُولُ بِالحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، ويَقُولُ مع ذلك: إِنَّ الشَّرْعِيَّ مَخْصُوصٌ بِالصَّحيحِ، ويَحْمِلُ اللَّفْظَ إذا وَرَدُ مِن الشَّارعِ عَلَى الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وغَيْرهُ مِن الْمُحْتَمَلَاتِ، وهُوَ يَحْمِلُ الْكَلَام على حَقِيقَتِهِ، ولا وَجْهَ للإجْمَال عِنْدَه؛ إذ لا شَكَّ عِنْدَه في انْتِفَاء الذَّاتِ - فَأَيُّ دَاعٍ إلَى الإجْمَال، ومَن يُنْكِرُ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ كالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، أو يَقُولُ: الشَّرْعِيُّ لأَعَمّ مِن الصَّحِيحِ والفَاسِدِ، أَو يَقُولُ: إذا وَرَدَ لفْظٌ له مَحْمَلٌ لُغَوِيٌّ ومحْمَلٌ شَرعِيٌّ كانا بالنِّسْبة إليه سواء يتَّجه منه دَعْوَى الإجْمَال. ثم اختَلَفَ القَائِلون بالإجمال، فذهب ذَاهِبُون إلى أن سَبَبِيَّة كوْن اللَّفْظِ لَمْ يُرِدْ نَفْي وُقُوع الفِعْل، أو وُقُوعَه مَوْجُودٌ ومشاهدٌ، وإنَّما أريد به أمرٌ آخر لم يُذكَرْ، والَّذِي أريدَ به غير مَعْلُومٍ، فكان مُجْمَلًا، وردَّ نازلون عن هذه المَرتبَةِ هذا.


(١) أخرجه البيهقي (١/ ٤١) بلفظ: "لا عمل لمن لا نية له" ورواه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ: لا أجر إلا عن حسبة ولا عمل إلا بنية.

<<  <  ج: ص:  >  >>