وقالُوا: اللَّفْظُ موضُوعٌ لِنَفْي الأَوْصَافِ دُونَ الذَّوَات؛ ألا تراهُم يَقُولُون لِمَن أجَابَ بما لا يُفِيدُ: لم يجب شيء، ولكن الأَوْصَافَ مُتَعَدِّدَةٌ، فسببُ الإجْمَال تَعَدُّدُهَا، وتردد لا صيامَ إلَّا بِنِيَّةٍ، وأمثالهُ بين نَفْي الجَوَازِ ونَفْي الكمال، وهذا اختيارُ الْقَاضِي، والحقُّ عَدَمُ الإجْمَال، وأنَّهُ ظَاهِرٌ في نَفْي الصِّفَات، ثُمَّ ما كانَ أقْرَبَ إلى الحَقِيقَةِ، كَان المَنْفِيَّ كَما عَرَفْت، فإن تَسَاوَتِ المجازَاتُ وكانَتْ مُتَنَافِيَةً كان مُجْمَلًا إذ ذاك، وإن كان بَيْنَهُمَا قدْر مُشْتَركٌ صُيِّرَ إلَيه. هذه هي الطَّرِيقَةُ المُرْضِيَةُ عِنْدنا الجَارِيَةُ عَلَى أُسْلُوبِ التَّحْقِيقِ ومِنْ أصحابنا من قال بِالْعُمُومِ في ذلِكَ على نَحْوِ العُمُومِ في المحذوفاتِ والمَنْطُوقَاتِ، لا على أصْلِ الواقِفِيَّةِ المُنْكِرين لِلْعُمُوم أصْلًا، ولا على أصْلِ المُعَمِّمين الَّذِين يَقْصرُون التعميم على الصِّيَغِ، ولا يَرَوْن تَعْمِيمَ المَحْذُوفَاتِ.
وذكر القاضي أن المُعَمِّمِين أَخْطَأُوا، وإن سُلِّم لهم أصْلهم في العُمُوم، واعتلَّ بأن العُموم إنَّما يَصِحُّ دعواه فيما لا يتناقَض، وأمَّا إذا كان يَصِيرُ إلى تناقُضٍ وتهافُتٍ، فيستحيل دعوى العُمُومِ.
قلت: وهذا حقٌّ فيما تنافَتْ فيه المحامِلُ كما قُلْناه، ولكن قد لا يُسَلِّمُ المُعَمِّمُونَ التَّنَافِيَ بَيْنَ الْكَمَال والصِّحَّةِ حالة النَّفْي، ويقولون: يَجُوز نَفْيُهُمَا معًا، وهذا مَوْضِعُ نَظَرٍ؛ فإنَّ إمام الحَرَمَيْن وابنَ السَّمْعَانيِّ وغَيْرَهمَا ذَكَرُوا أن من ضَرُورَةِ نَفْي ثُبُوتَ الجَوَازِ، وهذا إن صحَّ لهم ثَبَتَتْ دعوى نَفْي العُمُوم كما صَحَّتْ دعوى نَفْيِ الإجْمال، وقامَ تَقْدِير الجَوَاز فإنَّهُ أعَمُّ وَأَقْرَبُ إِلى نَفْي الحَقِيقَةِ، ولكِن لقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّمُ أن نَفْيَ الكمال يَقْتَضِي إثْباتَ الجَوَازِ؛ فإنَّ نَفْيَ الأخصِّ لا يقتضي ثُبُوتَ الأعَمِّ، بل هو صَادِقٌ وإنْ لم يثبت الأعمُّ أيضًا.
والَّذِي أرَاهُ أنَّهم لم يَقصِدُوا أن قَضِيَّة نَفْي الكَمال إثباتُ الجواز؛ فإنَّ ذلك سَاقِطٌ كَمَا تَرَى، بل إنَّه يُشْعِرُ بإثبات الجَوَازِ إشْعارًا مَحْضًا؛ إذ لا يُقَال في العُرْفِ للصَّلاة الفَاسِدَةِ: صلاةٌ غَيْرُ كَامِلَةٍ، وإنَّما يُقَالُ ذلك لِنَاقِصَةِ الفَضَائِل الَّتِي لا تُوجِبُ الإخلال بها فسادًا.
ثمَّ أقولُ: وإذا نَفَيْنا الجواز كان قولنا معه: "ولا كمال" غير محتاجٍ؛ إليه لتضمُّن نفي الجواز إيَّاه، فإذا قيل: يُفْهَمُ من إثباتِ الجَوازِ، ثم يُنَافِي قَوْلنا: لا جَوَازَ، فَمِنْ هُنا يجِيءُ التَّنَافِي؛ فإنَّ نَفْيَ الْكَمَال يُشْعِرُ بِثُبُوتِ الإجْزاء، ويُعْتَضَدُ هَذَا الإشْعارُ بضمِّهِ إلى نَفْسِ الجَوَازِ؛ فإنَّه لَوْ لَمْ يُفِدْ أمْرًا يُغَايِرُهُ لإفادَة نَفْيِ الإجْزاءِ لما كان لِذِكْرِه فَائِدَةٌ إلى نفي الجواز، ونفي الإجزاء مع ثبوت الإجزاء مما يتضاد، فافهم ما يلقى إليك فيه يظهر لك التَّنافي بين نفي الكمال والصحة، وتنكر به على مدعي العموم.