وإنَّما قيدنا بارتفاع الحكم، ولم نفيد بارتفاع الأمر والنهي؛ ليعلم جميع أنواع الحكم من النَّدْبِ، والكراهة، والإباحة؛ فجميع ذلك قد ينسخ.
وإنَّما قلنا:"لولاه لكان الحكم ثَابتًا به"؛ لأن حقيقة النَّسْخِ الرفع، فلو لم يكن هذا ثَابِتًا، لم يكن هذا رافعًا؛ لأنه إذا ورد أمر بعبادة مؤقتة، وأمر بعبادة أخرى بَعْد تَصَرُّمِ ذلك الوقتِ، لا يكون الثاني نَاسخًا، فإذا قال: ﴿أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [سورة البقرة: الآية ١٨٧]، ثم قال:"في الليل لا تصوموا"، لا يكون ذلك نَسْخًا، وإنَّما قُلْنا مع تراخيه؛ لأنه لو اتَّصَلَ به لكان، بيانًا وإتْمامًا لمعنى الكلام، وتقديرًا له بِمُدَّةٍ أو شَرْطٍ، إنَّما يكون رافعًا إذا ورد بعد أن وَرَدَ الحُكْمُ واسْتَقَرَّ؛ بحيث يدوم لولا النَّاسِخُ.
وتعريفه معتَرَضٌ عليه بأربعة اعتراضات، يُجَابُ عنها بما يُجَابُ على تعريف الإمام، وبرابع يخصه، وهو أن قوله:"عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لكان ثابتًا به مع تراخيه عنه" زيادةٌ لا يحتاج إليها، أما "لولاه لكان ثابتًا به"؛ فلأن الرفع لا يكون إلَّا إذا كان كذلك.
وأمَّا "مع تراخيه عنه"؛ فلأنه لَوْلَاهُ لم يتقررِ الحُكْمُ الأوَّل؛ فَكَانَ دَفْعًا لا رَفْعًا؛ كالتَّخْصِيصِ.
ويجابُ عنه: بأن قوله: "لَوْلَاهُ لكان ثابتًا به": احترازٌ عن قول العَدْلِ: "إن حكم كذا قد نُسِخَ"؛ فإنه وإن كان خطابًا دَالًّا على ارتفاع الحكم، لكنه ليس هو بِحَيْثُ لولاه لكان الحكم ثابتًا في نفس الأَمْرِ، وإنِ اعْتَقَدَ المُكَلَّفُ ثبوته، مع أن دلالة الرفع على ما ذكرَ التزامٌ، ولا يَقْدَحُ في التَّعْرِيفِ التَّصريحُ بما علم التزامًا على أنه، لو أُرِيدَ بالدَّالِّ الدَّالُّ بالذات، اندفعت الثلاثةُ.
وبأن قَوْلَهُ "مع تراخيه عنه"؛ احتراز عن الغَايَةِ ونحوها؛ من المُخَصِّصَاتِ المُتَّصِلَةِ.
وعَرَّفَهُ ابْنُ الحَاجِبِ بأنه:"رفع الحكم الشرعي بِدَلِيلٍ شَرْعِيّ متأخِّرٍ".
فقوله:"رفع الحكم الشَّرْعي"؛ لِيُخرجَ المباح بحكم الأصل؛ فإن رفعه بدليل شرعيٍّ ليس بنسخ.
وقوله:"متأخِّر"؛ لِيُخْرجَ نحو "صَلِّ" عِنْدَ كلِّ زوالٍ إلى آخر الشَّهْرِ، ويُعْتَبَرُ تعريف ابْنِ الحَاجِبِ مِنْ أَدَقِّ التَّعَارِيفِ؛ لأنه لا يرد عليه شيء من الاعتراضات السَّالف ذكرُها.