أما إن فسرت بِـ"المعرف" فكونه منصوصًا عليه ينافي التعليل بهذا المَعْنَى، وعلى هذا جرى المصنّف، وقال: إِنما عَنَت الشَّافعية أنها بمعنى البَاعِث، ونحن - مَعَاشِرَ الشافعية - لا نفسّر العلة بـ"الباعث" أبدًا، ونشدد النكير على من يفسرها بذلك، وإنما نفسرها بـ "المعرف"، ونحن نقول: ليس معنى كونها معرفًا إلا أنها نصبت أمارة يستدلّ بها المجتهد على وِجْدَان الحكم، إذا لم يكن عارفًا به، ويجوز أن يتخلّف في حقّ العارف، كالغيم الرّطب أمارة على المَطَر، وقد يتخلّف فإذا عرف الناظر - مثلًا - أن الإِسْكَار علّة التحريم، وهو حيث وجده قضى بالتَّحْريم.
غاية ما في الباب: أن العالم يعرف تحريم الخَمْر غير الإِسكار؛ لاطِّلَاعه على النَّص، ولكن هذا لا يوجب ألا يكون الإسكار معرفًا، بل هو منصوب معرفًا، فقد يعرف بعض العوام علّية الإسكار للتحريم، ولا يدري هل الخَمْر المنصوص أو النَّبِيذ، أو غيرهما من المسكرات.
فإذا وجد الخمر قضى فيه بالتحريم مستندًا إِلى وجدان العلّة، ومستفيدًا ذلك منها، فقد وضح بهذا أنّ العلّة قد تعرف حكم الأصل بمجردها، وقد تجتمع - أيضًا - في التعريف هي والنَّص، على رأي من يجوز اجتماع معرفين.
وإذا تمهّد لك هذا، علمت أن العلَّة "المعرف" في الأصل والفرع جميعًا، وأن نسبة الأصل والفرع إلى العلة على حدّ سواء، لا فرق بينهما، إِلا أن بعض النَّاس سبق لهم معرفة حكم الأصل من غير العلّة، فلم تعرفهم العلّة شيئًا، ونحن لم نقل: المعرف يعرف كل أحد، بل إنما يعرف من ليس بعارف؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وتخلف التعريف بالنِّسْبة إلى العارف لا يخرج الأمارة عن كونها أمارة، ولذلك بعض النَّاس يعرف حكم الفرع من العلّة دون بعض، فإن كثيرًا من النَّاس إنما يعرفون حكم الفرع من [المفتي](١) وإن لم يعرف العلة أصلًا، فكم من عامّي يعرف من المفتين أن الزبيب ربوي، ولا يدري العلّة، فقد لاح كَفَلَق الصُّبح أن العلة المعرف في الأصل والفرع، وليس الدّور بلازم.
وقالت الحَنَفِيّة: ثابت بالنص، فإن أرادوا أن النص أنشأ الحكم، فهو خطأ؛ فإن