والظاهر أن هذا الدليل لا يفيد في إثبات المطلوب؛ لأنهم استندوا أولًا على أنه لا يدرك المعنى فيها لاشتمالها على تقديرات لا تعقل، وقد تقدم أنه يدرك المعنى في بعضها، كقياس القتل بمثقل على القتل بمحدد، وقياس النَّباش على الصادق؛ فإن كلًّا منهما يدرك المعنى فيه، واستندوا ثانيًا على الحديث المتقدم، وبنوا عليه أن القياس شبهة، فيدرءوا به الحد، وقد ثبت أن هذه الشبهة لا تؤثر في ثبوت القياس كما لا يؤثر عليه الخلاف الحاصل في الشهادة، وإذًا يكون تقدير حد الشرب ثبت بالقياس، وما قيل من أنه ثبت بالإجماع فغير ظاهر؛ لأنهم لم يجمعوا على أن حد الشرب ثمانون، وإنما أجمعوا على أن الشارب كالمفتري، فيحد ثمانين، كما ثبت من الروايات الدالة على ذلك صراحة، وقد ادّعى الحنفية: أن حد الشرب ثبت بالدليل السمعي لا بالقياس مع أنهم لم ينقلوا دليلا من الشارع يثبتون به مُدَّعَاهُم، والظاهر أنه لم يكن لديهم دليل سمعي، ولو كان عندهم دليل من الشارع، لتمسكوا به، غاية الأمر أنهم قالوا: إن حده أُخذ بإشارات رسول الله ﷺ. وما استندوا إليه من رواية البخاري عن السائب بن يزيد لا يكون دليلًا لهم؛ لأن غاية ما يفيده هذا الخبر تطور الحد بحسب الزمن إلى أن انتهى إلى ثمانين في خلافة عمر ﵁. فإنهاؤه ثمانين ليس من طريق السمع، ولا أخذًا بإشارات رسول اللّه ﷺ بل المنقول أنهم قاسوا السكر على القذف في وجوب جلد ثمانين، كما روى عن ابن عباس ﵄ أنهم أخذوا بقول علي - كرم اللّه وجهه - حين تشاوروا في حد الشرب، فقال على: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، على المفتري ثمانون؛ فظهر أن القياس يجري في الحدود والكفارات كغيرها من باقي الأحكام. ينظر: البحر المحيط للزركشي ٥/ ٦٢، والبرهان لإمام الحرمين ٢/ ٨٩٥، ٨٩٦، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤/ ٥٤، والتمهيد للأسنوي ٤٦٣، ونهاية السول له ٤/ ٣٥، ومنهاج العقول للبدخشي ٣/ ٤٢، والتحصيل من المحصول للأرموي ٢/ ٢٤٢، والمنخول للغزالي ٣٧٥، والمستصفى له ٢/ ٣٣٤، وحاشية البناني ٢/ ٢٠٤، والإبهاج لابن السبكي ٣/ ٣٠، والآيات البينات لابن قاسم العبادي ٤/ ٥، وحاشية العطار على جمع الجوامع ٢/ ٢٤٣، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ٦٢٢،=