للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا … وَفَاتَ ثِمَارُهَا أيْدِي الْجُنَاةِ
ومما يفيد العموم أيضًا الاشتقاق، فإن أهل اللغة قالوا: إن أصل معنى لفظ الخمر: الستر والتغطية.
سمّي الخمار خمارًا لأنه يغطي رأس المرأة، والخامر هو الذي يكتم شهادته، والخمَر: ما واراك من شجر وغيره، قال ابن الأنباري: سميت الخمر خمرًا لأنها تخامر العقل إلى آخر ما تقدم عنه.
وإذا اشتق من اللفظ بأي معنى من معانيه، فهو موجود في النبيذ، لوجوده في الخمر، فوجب أن يشترك معه في الاسم، ولذلك قالوا لمن بقيت فيه نشوة السكر: مخمور، اشتقاقًا من اسم الخمر، سواء أكان سكره من نبيذ أم من خمر من غير فرق، ولو افترقا في الاسم لافترقا في الصفة، فقيل له في نشوة النبيذ: منبوذ، كما قيل له في نشوة الخمر: مخمور، فهذه الاشتقاقات وحدها من أقوى الأدلة على العموم، وكأنها سميت خمرًا تسمية باسم المصدر؛ للمبالغة، كما سميت سكرًا تسمية باسم المصدر، كالرشْد والرشَد مبالغة؛ لأنها تسكر العقل، أي: تحجز نوره من الوصول إلى الأعضاء. "والسكَر مصدر سكر من الشَّراب من باب طَربَ، وسكر النهر سدّه من باب نصر".
لا يقال: هذا من إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز؛ لأنا نقول: ليس هذا من إثبات اللغة بالقياس، وإنما هو من تعيين المسمَّى بواسطة الاشتقاق، ولهذا نظير، فقد قال الحنفية: إن مسمى النكاح هو الوطء، وأثبتوه بالاشتقاق.
وذهب فريق آخر من أصل اللغة إلى أن إطلاق اسم الخمر على الشيء المسكر من عصير العنب حقيقي، وإطلاقه على ما سواه من سائر الأنبذة المسكرة مجازي.
قال في "لسان العرب": "الخمر ما أسكر من عصير العنب؛ لأنها حامرت العقل، والتخمير التغطية، يقال: خمر وجهه، وخمر إناءك، والمخامرة: المخالطة. وقال الدينوري: قد تكون الخمر من الحبوب، فجعل الخمر من الحبوب. قال ابن سيده: وأظنّه تسمّحًا؛ لأن حقيقة الخمر إنما هي العنب دون سائر الأشياء، وفي المغرب: الخمر: هي النيء من ماء العنب، إذا غلي، واشتد وقذف بالزبد".
ومما يفيد الخصوص من كلام العرب قول أبي الأسود الدؤلي: [الطويل]
دَعِ الْخَمْرَ تَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنى … رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا بِمَكَانِهَا
فَإِنْ لَمْ تَكُنْهُ أَوْ يَكُنْهَا فَإِنَّهُ … أَخُوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
أخبر أبو الأسود: أن النبيذ أخٌ للخمر، وأخو الشيء غيره، وهو من فصحاء العرب المحتجّ بقوله في اللغة. ها هي ذي النقول عن أهل اللغة، ويظهر منها: أن الأرجح في مسمّى الخمر العموم لغة، كما صرّح بذلك صاحب القاموس بقوله: "والعُمومُ أصحّ"، وقد غلط ابن سيده في اقتصاره على قول صاحب "العين": "الخمر: عصير العنب إذا أسكر"، ولعل سبب ذلك أن خمر العنب كانت كثيرة في زمن تدوين اللغة، فظن بعضهم أن الإطلاق ينصرف إليها فقط حقيقة؛ لكثرتها وشهرتها وجودتها.
وقد يستأنس لهذا بنقل الصحيحين والمسانيد والسنن بيان معنى الخمر عن الرسول وأصحابه، وهم من أهل اللسان. =

<<  <  ج: ص:  >  >>