للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والحق جوازُ المجازِ في الإسناد، ووقوعُه، واستبعاد المصنِّف لا يوجب رفع ذلك؛ وقُصاراه أن يثبت بعده، ولا يلزم من البُعْدِ عدمُ الوقوع.

ولنذكر ههنا كلمةً نافعةً في هذا المختصر، فنقول: المصنِّف كثير الاستعمال لردِّ رأي خصمه؛ باستبعاده؛ كما فعل هنا؛ وكما قال: (قولهم ما اتفق فيه اللّغتان؛ كالفُرْنِ والتَّنُّورِ - بعيدٌ)؛ مع رده على من يحكم على أمرٍ بِبُعْده؛ بأنه استبعاد؛ فلا يجديه؛ كما ردَّ قول الأستاذ؛ أن المجاز يُخِلُّ بالفَهْمِ؛ بأنه استبعاد؛ ولعلك تحسِب ذلك منه تناقضًا، وليس دعواك بُعْدَ ما يدعيه خصمُك في مسألة ناشئًا من دعوى خصمك بُعْدَ ما تدعيه في أخرى، ولا ردُّك مُدَّعى الخصْمِ ببُعده - أفْحَمَ من رده دعواك بِبُعْده.

والجواب: أن الاستقراءَ حُجَّةٌ؛ لا سيما في اللُّغات، فإذا استقرأ اللُّغويُّ أمرًا، قضى به، ثم بنى عليه ما شاء مما يلائمه، وغايةُ ما له من الاستقراء دليلٌ ظني، ثم من ادعى خروج شيء عن استقرائه، كان مُبعَدًا عنده، فإن حقق دعواه بدليل أقوى من الاستقراء، كما إذا أتى بصورة واقعة، لم ينهض الاستقراء حُجَّة عليه، ولم يصح أن يُرَدَّ مُدَّعاه بِمُجَرَّدِ البعد، وإن لم تتحقَّق دعواه بدليلٍ أقوى من الاستقراء، رُدَّت دعواه، وكان استبعادنا له حُجَّةً، وذلك كالمجاز يدعي مُنْكِرُه أنه يُخِلّ بالفهم، وأن ما يخلّ بالفَهْم لا يقع من العرب؛ فنقول: غايةُ ما ينتجُ لك هذا - دليلٌ ظَنّي على أن المجاز لا يقع؛ وهو معارض بأقوى منه؛ من دليل مثبت المجاز؛ فيُصَار إلى استبعاد وقوع أمر على خلاف استقرائك، واستقراؤك قد بطل بوجدان خلافه، فلم يُجْدِ الاستبعاد شيئًا، والحالة هذه.

وأما إذا لم يتحقّق الخصم دعواه؛ بما يبطل الاستقراءَ، فلا يُسْمع، وينتهض البُعد حجةً عليه؛ لاعتضاده بالاستقراء الذي لا مُعَارِضَ له؛ وذلك كقولهم: (مما اتفق فيه اللّغتان)؛ فإن المصنّف استبعده، وهو استبعاد موافق للدليل الذي أقامه من وجود المِشْكَاةِ، والإسْتَبْرَقِ، ونحوِهما، فمنكرُ المجازِ مستبعدٌ لما قام الدليل عليه؛ فكان استبعاده مردودًا، والمصنِّف مستبعِدٌ لما قام الدَّليل على خلافه، فكان استبعاده مقبولًا، وهذا في قوله: (قولهم مما اتفق فيه اللُّغتان)؛ وما شاكله، فقس عليه نظائره، فهي كثيرة في هذا المختصر.

وأما دعواه بُعْدَ قول عبد القاهِرِ (١)، فمثْلُ دعوى الإسنادِ بَعْد المجاز؛ فلا تُسْمع؛ لأنه


(١) عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر: واضع أصول البلاغة. كان من أئمة اللغة من أهل جرجان، له شعر رقيق. من كتبه "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز"، و"إعجاز القرآن". توفي سنة ٤٧١ هـ. ينظر: فوات الوفيات ١/ ٢٩٧، والأعلام ٤/ ٤٨، وطبقات الشافعية ٣/ ٢٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>