وأجيب عن ذلك من قبل المعتزلة بأن العدل واجب فالمجازاة واجبة تحقيقًا لذلك، ومن المعلوم أنها لا تتم في الدار الدنيا بالمشاهدة؛ لأنا كثيرًا ما نرى المظلوم يموت قبل أن ينصف من ظالمه والظالم يموت قبل أن يقتص منه، فلا بد من دار سوى هذه الدار؛ ليقع فيها الجزاء تحقيقًا لمعنى العدالة، وذلك كاف لأن يحكم العقل بالثواب والعفاب فيها وإن كان خصوص الميعاد الجسماني سمعيًا. وحاصل الاعتراض أن الحسن والقبح يتوقف تعقله على أمر سمعي، وكل ما كان كذلك لا يستقل العقل بإدراكه فضلًا عن أن يكون ضروريًا. والجواب بمنع صغراه أي لا يتوقف على أمر سمعي بل يتوقف على أمر عقلي، أعني مطلق دار الجزاء، والدليل على أنه عقلي أن الفلاسفة مع إنكارهم للحشر قالوا بوجود دار للجزاء. فذا حاصل رد المعتزلة على هذا الإشكال، وهو بعينه يصلح للرد من جانب الحنفية بعد إغفال مقدمة وجوب العدل. ولنرجع إلى إتمام التقسيم فنقول: ومنه ما هو نظري، وذلك كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع؛ فإنهما يعرفان بعد التأمل، قالوا: ومنه الأفعال ما لا يدرك حسنها أو قبحها أصلًا أي لا بالضرورة ولا بالنظر بل بالسمع، وذلك كحسن الصلاة والصوم وسائر العبادات وكقبح صوم أول يوم من شوال؛ فإنه لا سبيل للعقل إلى معرفته لكن الشارع لما حكم على هذا الوجه علمنا أن بالأول حسنًا ذاتيًا وبالأخير قبحًا كذلك؛ لما علم من أن الشارع الحكيم لا يصدر عنه فعل إلا وقد لاحظ فيه ما يدعو إليه من مصلحة. (١) في أ، ب، ح: ينصلح.