وأما زائل العقل بجنون أو سكر، فليست أفعاله اضطرارية كأفعال الملجإ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله، بل هو نوع آخر يشبه الاضطرارية، وأفعاله كفعل الحيوان، وفعل الصبي الذي لا تمييز له؛ إذ لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها، وإرادة يقصد بها، وقدرة ينفذ بها، فهذه أفعال طبيعية، واقعة بالداعي والإرادة والقدرة، وإن كانت الداعية التي فيهم غير داعية العاقل العالم بما يفعله؛ لأنه يتصور ما في الفعل من الغرض، ثم يريده. ويفعله، ولهذا لم يكلفه أحد من هؤلاء بالفعل، فأفعالهم لا تدخل تحت التكليف، وليست كأفعال الملجإ ولا المكره وهي مضافة إليهم مباشرة، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم خلقًا. فهي مفعولة وأفعال لهم. والله أعلم. ولا خلاف في أن أفعال العباد الاضطرارية مخلوقة لله تعالى، ولا في أن الكلام اللفظي القائم بالنبي ﷺ على تقدير حدوثه مخلوق له تعالى. أما عند أهل السنة فظاهر، وأما عند المعتزلة فإما بنفي اختياريته أو باستثنائه من الكلية. وأما أفعال العباد الاختيارية، فقد اختلفوا في الخالق لها: فقالت الجبرية: الخالق لأفعال العباد الاختيارية هو الله فقط، ولا دخل لقدرة العبد في فعله ألبتة، بل هو مجبور ومقهور، وأن حركته الاختيارية لا اختيار له فيها، وأنها كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركة الأمواج، وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء وقالوا: [البسيط] مَا حِيلَةُ الْعَبْدِ، والأَقْدَارُ جَارِيَةٌ … عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَيُّهَا الرَّائِي أَلْقَاهُ فِي اليَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ … إِيَّاكَ إِياكَ أَنْ تبتَلَّ بِالمَاءِ وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: فعل العبد واقع بقدرة الله ومخلوق له، وأن قدرة العبد لها دخل في الفعل الاختياري بالكسب والاختيار، وأن الله قد جرت عادته بأن يخلق فعل العبد الاختياري مقارنًا لقدرته، وهذا هو الكسب عنده. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: أصل الفعل واقع بقدرة الله تعالى، وأما وصفه فواقع بقدرة العبد كما في لطم اليتيم تأديبًا وإيذاءً، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة على الأول ومعصية=