وأنت إذا تأملت فيما قاله أبو عبد الله البصري، وفي سياق دليله يتضح لك أن مذهب البصري يرجع في المعنى إلى مذهب القائلين بالنفي مطلقًا، وذلك لوجهين: الوجه الأول: أن الدلالة على نفي الحكم عما عدا الموصوف بالصفة في الصور الثلاث، ليس آتيًا من ناحية تعليق الحكم على الوصف، بل من ناحية أخرى. أما في الصورتين الأوليين: فمن ناحية ورود الخطاب للبيان والتعليم، فإن ذلك يفيد الحصر، وليس هذا مخصوصًا بالمقيد بالصفة، بل كل ما ورد للبيان قولًا، أو فعلًا، أو تقريرًا، منطوقًا، أو مفهومًا، ولو لقبًا يفيد الحصر، فإن لولاه لم يتم به البجان، فالبيان يفيد الحصر، وإلا لم يكن بيانًا. وأما في الصورة الثالثة؛ فلأجل القرينة، فإن الشيء إذا كان داخلًا في الشيء، وتعلق الحكم بذلك الشيء أعني: الكل، فإن ذلك يقتضي نفي الحكم عن الجزء، وإلا لما كان لتعليقه بالكل معنى، والفرض أنه متعلق بالكل، على أنه لو تعلق الحكم بالجزء للزم عليه بطلان المنطوق؛ ألا ترى أنه لو قيل: "أحكم بشاهدين من رجالكم" فإن ذلك يقتضي المنع من الحكم بشاهد واحد؛ إذ لو ثبت الحكم بالشاهد الواحد، لما توقف الحكم على الشاهدين، وهو خلاف مقتضى المنطوق؛ لأنه صريح في توقف الحكم على الشاهدين، وأنه لا يحصل الامتثال إلا بهما. فظهر أن الدلالة على نفي الحكم في هذه الصور خارجة عن نظم المفاهيم، ولهذا قال في "المنتهى": التخصيص في معرض البيان يدل على النفي إجماعًا إلا أنه خارج عن نَظْمِ المفاهيم. الوجه الثاني: أن مساق دليله يدل على أنه يقول بنفي المفهوم مطلقًا، أما قوله: بنفي الحكم في الصور الثلاثة فلمعنى آخر لا لدلالة التعليق عليه، حتى يكون قائلًا بالمفهوم في هذه الصور، ولهذا لم يتعرض لدلالة التعليق على هذا النفي في دليله، ويؤيد هذا صنيع الآمدي في "الإحكام" فإنه ذكر هذا الدليل مع نسبته للبصري في أدلة النافين مطلقًا. فمن هذين الوجهين يتبين لنا جليًّا أن مذهب أبي عبد اللّه البصري هو بعينه مذهب القائلين بنفي المفهوم، وليس مذهبًا آخر تصحيحًا لكلامه ما أمكن؛ إذ لو بقي على ظاهره؛ لكان مدخولًا في قوله، وفي استدلاله. أما في قوله؛ فلأنه يقتضي أنه يقول بالمفهوم في هذه الصور، مع أنها خارجة عن نظم المفاهيم. =