وإنما قلنا: إنه نسخ؛ "للتخيير بعد الوجوب"؛ فإن التَّخيير والتعيين حكمان شرعيّان، وقد رفع الأول الثاني.
"ولو قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ [سورة البقرة: الآية ٢٨٢] ثم ثبت الحكم بالنص بشاهد ويمين، فليس بنسخ؛ إذ لا رفع لشيء" من مدلول الآية.
"ولو ثبت مفهومه" أي مفهوم شهيدين، "ومفهوم: فإن لم يكونا رَجُلين؛ إذ ليس فيه منع الحكم بغيره". هذا كلام المصنف، ولم يقرره الآمدي على هذا الوجه.
وما فعله المصنّف حسن جدًّا، وحاصله أن أصحابنا قبلوا خبر الواحد، ثم إنه ﷺ قضى بالشَّاهد واليمين.
وردّه الحنفية قائلين: إنه خبر واحد ناسخ لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ [سورة البقرة: الآية ٢٨٢] قالوا: فإن الأمر كان دائرًا بين اثنين، فزيد ثالث، والزيادة نسخ.
وخبر الواحد لا ينسخ الكتاب.
وهو أضعف؛ لأن الآية والحديث لم يَتَوَاردا على محل واحد؛ إذ الآية في الأمر باستشهاد شَهِيدين، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، والحديث في الحكم بشاهد ويمين، والاستشهاد غير الحكم.
ويزداد ما ذكره المصنّف حسنًا بأن يقول: ثم إن الأمر بالاستشهاد أمر إرشاد، فالله - تعالى - أرشد إلى الأكمل، والأكمل استشهاد شهيدين رجلين أو رجل وامرأتين إن لم يكونا رجلين، والشاهد واليمين دون ذلك؛ لأن أقل الأحوال كونه مختلفًا فيه، والإرشاد إنما يكون إلى الأكمل، وسيظهر لك نفع هذا التقرير إن شاء الله تعالى.
سلمنا أن مقتضى الآية: أنه - تعالى - أوقف الحكم على شاهدين، فليس في ذلك إلَّا أن شهادتهما حُجّة.
فلم قلتم: إنّ شهادة غيرهما لا تكون حُجّة، وإليه أشار في الكتاب، بقوله: فليس بنسخ؛ إذ لا رفع؟
لا يقال: مفهوم: "فإن لم يكونا رجلين" ومفهوم: شهيدين، يقضي بالانحصار فيهما، ويمنع الشاهد واليمين.