للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويقتلُ القاتلان، ونسمِّيهما قاتلين حقيقةً، واسم الفاعل حقيقة فيما قامَ به الفعل، فلو لم يَقُمِ القَتْلُ بكلِّ واحدٍ منهما؛ لم يسُمَّ قاتلًا حقيقةً، ولم يَجِبْ عليه قِصَاصٌ. فإِنْ قلتَ: فينبغي على مَسَاقِ ما قرَّرتُمُوهُ أنْ يجبَ على كُلِّ واحدٍ من القاتلين دِيَّةٌ كَامِلَةٌ إِذا آلَ الأَمْرُ إِلى الدِّيَةِ ولا قائِلَ به، وإِنما يَجِبُ الحصَّة. قلتُ: أمَّا على الطَّرِيقة الأولى فلا يلْزَمُ ذلك؛ إِذ الصادِرُ قتل واحدٍ، ولا يَجِبُ في مقابلة القتل الواحد إِلَّا قِصَاصٌ أو دِيَة، لكن القِصَاص لما وَجَبَ، واسْتَدْعى محلًا يجب، وليسَ أحد القاتلين أولى من الآخر، والتَّحري في القصاصِ غير مُمْكن: احتُمِل أن يسقط رأسًا ويَعْدِل إِلى الدِّية، وذلك هو القَوْل الَّذِي حكاهُ ابن الوَكِيل، واحتُمِل أن يُوجب على واحدٍ يُعَيِّنُهُ الوَليُّ؛ لأنَّ القصاصَ موضوع للتشفِّي، ودرء القَتْل، والتَّشَفِّي يحصُلُ باختيار الوليِّ من يُريدُه، ودَرْء القتلِ حاصِلٌ بإِيجابِ نَفْسٍ في مقابلةِ نَفْسٍ، وهو القولُ الآخر، واحْتُمِل أن يُوجَبَ على كلِّ واحدٍ؛ لأنَّ القَوْل بسُقُوطِهِ مؤدٍ إِلى أن يُتَّخَذَ الاشْتِرَاكُ ذَرِيعَةً إِلى سَفْكِ الدِّمَاء، ولن نَعْدَم واحدًا صاحبًا يوافِقُهُ على فُجُورِهِ، وإِيجابُهُ على من يُعَيِّنُهُ الوَلِيُّ فيه إِضرارٌ بأحَدِ الشُّرَكَاءِ زائِدٌ على رِفْقَتِهِ مع مُسَاوَاتِهِ لهم فيما اقْتَرَفُوه، ولا يَلِيق ذلك بِمَحَاسِن الشَّرِيعَةِ، وكانَ الأَخْذُ بمجامع المصالِح إِيجَابَ القِصَاصِ على الكُلِّ؛ لئلَّا يؤدِّي إِسْقاطُهُ إِلى اتِّخاذ الشركَةِ ذَرِيعةً في سَفْكِ الدِّمَاء، ثمَّ نقولُ: إِيجابُ القِصَاصِ على الجَمَاعةِ بقتلِ الواحِدِ ليس مُنقاسًا من كلِّ الوُجُوه، جارِيًا على مِنْهَاج المُقابلةِ والمماثَلَةِ من كلِّ ناحيةٍ، بل فيه معنىً مَصْلَحِي شَهِدَ له قَتْلُ عُمَر خَمْسةً أو سَبْعَةً برجُل قَتلُوهُ غِيلةً، وقوله: لو تمالأَ عليه أهْلُ صَنْعاء لقَتَلْتُهُمْ جميعًا، وهذا الاحْتِمَالُ الثَّالثُ هُوَ الصَّحيح، فإِذا آل الأمْرُ إِلى الدِّيةِ لم يُضْطَرَّ إلى إِيجابِ كلِّها؛ لإِمكان التَّحرِّي فيها، ورعاية المماثَلَةِ من كُلِّ الوُجُوهِ والعدل، فتحصَّلنا من هذا أنَّه على أنَّه لمَّا لم يَكُنْ درْءُ القِصَاص ولا المُماثلة من كلِّ وجهٍ، اغتفرنا إِيجابَهُ للمصالحِ الكُلِّيَّةِ، وفي الدِّيَة أمكنَتِ المماثلَةُ فلَمْ يعدلْ عنها، ولذلك لمَّا تخيَّل بعضُهُم إِمْكَانَ التَّماثُل في الجِرَاحَاتِ قَضَى به، فلإِمام الحَرَمَيْنِ احتمالانِ فيما إِذا اشْتَرَكَ جماعةٌ في مُوَضِّحَةٍ، بأن تحامَلُوا على الآلَة وَأجْرَوْهَا معًا:

أحدهما: أَنَّهُ يُوزَّعُ عليهم، ويُوَضَّحُ من كُلِّ واحِدٍ منهُم قَدْر حِصَّتِه؛ فإِن الموَضِّحَةَ قَابِلةٌ للتَّجْزِئَةِ، والقِصَاص جارٍ في أجزائِهَا، فصارَ كما لو أتْلَفُوا مالًا يُوزَّعُ عليهم الغُرْمُ.

والثَّاني - وَبه أَجَابَ صاحب "التَّهْذِيب" -: أنَّه يُوضَّحُ من كُلِّ واحدٍ منهُم مثل تلك المُوَضِّحَةِ؛ لأنَّه لا جزء إِلَّا وكُلُّ واحدٍ منهم جَانٍ عَلَيه، فإِن قُلْت: فقد أجْروا هذَيْن

<<  <  ج: ص:  >  >>