١٨ - وأما تفضيله بعض الأزمنة والأمكنة على بعض مع استواء الكل في الحقيقة، فليست علته هي حقيقة كونه زمانًا أو مكانًا، وإنما العلة التي اقتضت التفضيل هي ما وقع ويقع في تلك الأزمنة والأمكنة من الأمور الجليلة العظيمة القدر التي اختصت بها، فمثلًا "ليلة القدر" نزل فيها القرآن الكريم، وجعلت ميعادًا لنزول الملائكة والروح فيها بإذن ربهم تحمل ما تفضل الله به على الخلائق من النعم والرحمات فكانت العبادة فيها أفضل حتَّى يكون حظ العبد فيها أوفر. "ويوم عرفة" اختص بأن يقف فيه الجم الغفير من الخلائق ملبين، "ومكة" فضلت، لاختصاصها بالبيت الحرام والمشاعر العظام. "والمدينة" لاختصاصها بهجرة سيد الخلق ﷺ أولًا، وضمها جسده الشريف أخيرًا؛ ولأن أهلها أول من بايعه ﷺ ونصره. "وبيت المقدس" لاختصاصه بالمسجد الأقصى أولى القبلتين ومجمع الأنبياء ومنتهى إسرائه ﷺ ومبدأ عروجه إلى الملأ الأعلى. ١٩ - أما جمعه بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال مع اختلافهما في التعدي، فالحكمة فيه أن الضمان علته الإتلاف لا التعدي، ولا شكَّ أن المخطئ والعامد قد اشتركا في الإتلاف، فوجب اشتراكهما في الضمان، وهذا من ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به، ولو لم يجب الضمان على المخطئ لأتلف كل إنسان ما شاء، وادعى الخطا وعدم القصد، وهذا بخلاف الإثم والعقوبة، فإن مبناهما التعدي فلم يأثم المخطئ ولا يعاقب؛ لعدم تعديه، فالجمع بين الخطأ والعمد في الضمان جمع بين متماثلين في الإتلاف الذي هو علة الحكم، وإن اختلفا في التعدي فهو اختلاف في معنى لا تأثير له. وأما جمعه بين العاقل والمجنون، والطفل والبالغ في وجوب الزكاة مع اختلافهم بالتكليف، فهو حكم اجتهادي لا نص فيه، وهو محل نزاع بين الأئمة، والقائلون به رأوا أن الزكاة من حقوق الأموال لا الأشخاص؛ لأن ملك المال لا يتوقف على التكليف، فيستوي فيه العاقل والمجنون، والصبي والبالغ. وهذا المال يحتاج إلى التطهير بإخراج جزء منه للفقراء ونحوهم، فالزكاة تتعلق به كما يتعلق به الإنفاق على زوجته وأقاربه ورقيقه. وأما جمعه بين الماء والتراب في التطهير مع أن الأول منظف والثاني مقذر، فإن أراد جمعه بينهما في جواز التطهير في حالة واحدة، فغير مسلم؛ إذ التراب لا يطهر إلا عند فقد الماء أو العجز عن استعماله بمرض أو نحوه، وإن أراد أنه جمع بينهما في أصل جواز التطهير وإن كان الأول في حال القدرة والثاني في حال العجز، فمسلم، ولا يضر كون الأول منظفًا والثاني =